دفع الشبهات حول جمع القرآن الكريم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
المراد بجمع القرآن: يطلق جمع القرآن الكريم ويراد به أحد ثلاثة أنواع:
الأول: جمعه بمعنى حفظه في الصدور واستظهاره.
الثاني: جمعه بمعنى كتابته وتدوينه كله حروفـًا وكلمات، وآيات وسورًا.
الثالث: جمعه بمعنى تسجيله تسجيلا صوتيًا.
ولكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة تاريخ وخصائص ومزايا، ولذا فسنتناول كل نوع على حدة.
النوع الأول: جمعه بمعنى «حفظه في الصدور واستظهاره»:
- الدليل: ويشهد لهذا النوع قوله -تعالى-: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة:16-19).
فالمراد بالجمع هنا: الحفظ في الصدور، ويفسره حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم - يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً كَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ... فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَأُهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَالَ: فَاسْتَمِعْ وَأَنْصِتْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا أَقْرَأَهُ» (متفق عليه).
- حكمه: حفظ القرآن كله واجب على الأمة، بحيث يحفظه عدد كثير يثبت به التواتر وإلا أثِمت الأمة كلها، وليس هذا لكتاب غير القرآن، وأما الأفراد فيجب على كل فرد أن يحفظ من القرآن ما تقوم به صلاته.
- فضله: لم يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرًا فيه حث على حفظ القرآن إلا وسلكه وأمر به؛ فكان يفاضل بين أصحابه بحفظ القرآن، ويعقد الراية لأكثرهم حفظًا للقرآن، وإذا بعث بعثـًا جعل إمامهم في صلاتهم أكثرهم قراءة للقرآن، ويقدم للّحد في القبر أكثرهم أخذًا للقرآن، ويزوِّج الرجل المرأة ويمهرها ما مع الرجل من القرآن، فضلا عن الأحاديث الكثيرة الداعية لحفظ القرآن وتعلمه وتعليمه.
حفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - للقرآن الكريم:
إدراكًا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأمانة الكبرى التي كُلف بها، وهي أن يبلغ الناس القرآن: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (الأنعام:19)، وإدراكًا منه -عليه الصلاة والسلام- أن تبليغ القرآن يجب أن يكون كما سمعه بلا زيادة ولا نقصان، ولا استبدال لحرف بحرف، أو حركة بحركة؛ لذا فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يشعر بحرج شديد، وخوف عظيم أن يَنسى شيئًا من القرآن؛ مما جعله يحرك لسانه بالقرآن لحظة نزول الوحي مع شدة وطأة الوحي، وما يعانيه من الجهد والكرب عند نزوله، وما زال - صلى الله عليه وسلم - كذلك حتى نزل عليه قوله -تعالى-: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ).
- وقال -سبحانه-: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (طه:114)، فكان - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا إذا أتاه الوحي أطرق، فإذا ذهب جبريل وجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن مجموعًا في صدره كما وعده الله.
وقد حفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن كله، وحفظه أصحابه، وكان جبريل يعارضه إياه في كل عام مرة، في شهر رمضان، وعارضه إياه في العام الذي توفي فيه مرتين، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِي» (متفق عليه)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقوم بالقرآن ويتلوه آناء الليل وأطراف النهار حتى كادت أن تتشقق قدماه.
حفظ الصحابة -رضي الله عنهم- للقرآن الكريم:
اشتد التنافس بين الصحابة -رضي الله عنهم- في حفظ القرآن الكريم وتلاوته وتدبره، وتسابقوا إلى مدارسته وتفسيره والعمل به، وكانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، وكانوا يهجرون لذيذ المنام ودفء الفراش، ويؤثرون قيام الليل والتهجد بالقرآن، حتى كان يسمع لبيوتهم دوي كدوي النحل لتلاوتهم القرآن.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحثهم على ذلك، ويحرص على سماع تلاوتهم، فقد قال لأبي موسى الأشعري: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» (رواه مسلم).
واستمع لتلاوة سالم مولى أبي حذيفة --رضي الله عنهما- فقال له: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَكَ» (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
وقال لابن مسعود -رضي الله عنه-: «اقْرَأْ عَلَيَّ». قُلْتُ: أقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟! قَالَ: «فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي». فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} قَالَ: «أَمْسِكْ». فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ» (متفق عليه).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنِّي لأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ» (متفق عليه).
والأخبار الكثيرة تشهد على عناية الصحابة -رضي الله عنهم- بالقرآن الكريم وتلاوته، وحفظه، وعلى حثِّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه على ذلك.
فلا عجب أن يكثر عدد حفاظ القرآن من الصحابة، إذا حفظه في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجم الغفير من الصحابة، رضي الله عنهم.
فمن المهاجرين الذين حفظوا القرآن كله: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وسعد، وابن مسعود، وحذيفة، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمر، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وابنه عبدالله، ومعاوية، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن السائب، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، رضي الله عنهم أجمعين.
- ومن الأنصار: عبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وفضالة بن عبيدة، ومسلمة بن مخلد، وأبو الدرداء، وأنس بن مالك، وأبو زيد بن السكن، رضي الله عنهم أجمعين.
شبهة وجواب:
روى البخاري في صحيحه ثلاثة أحاديث:
- الأول: عن قتادة قال: «سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه -: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ» (رواه البخاري).
- الثاني: عن أنس بن مالك قال: «مَاتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. قَالَ: وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ» (رواه البخاري).
- الثالث: عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -فَبَدَأَ بِهِ- وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ» (رواه البخاري).
وقد يستدل بهذه الأحاديث على أن الذين يحفظون القرآن هم: عبدالله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء.
وهذا يخالف ما هو معلوم أن الذين يحفظون القرآن من الصحابة جم غفير وليس محصورًا بهذا العدد.
والجواب عن هذا الإشكال من وجوه:
- الأول: أنه لا يراد بهذه الأحاديث الحصر وإنما يراد بها ضرب المثل، ويشهد لهذا أن أنسًا نفسه ذكر في حديث: «أبي بن كعب»، وفي حديث آخر: «أبا الدرداء»؛ فلو كان المراد الحصر لاتفقت الأسماء في الحديثين.
- الثاني: أن المراد بالجمع الكتابة لا الحفظ.
- الثالث: أن المراد بالجمع حفظه بوجوه القراءات كلها.
- الرابع: أن المراد بالجمع تلقيه كله من فم الرسول صلى الله عليه وسلم .
- الخامس: أن المراد أنهم هم الذين عرضوه على النبي - صلى الله عليه وسلم - واتصلت بنا أسانيدهم، وأما من حفظه ولم يتصل بنا سنده فكثير.
- قال المازري -رحمه الله تعالى-: «وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه؛ فإنا لا نسلم حمله على ظاهره. سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟! سلمناه، لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله ألّا يكون حَفِظ مجموعه الجم الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى».
حفظ التابعين ومن بعدهم -رحمهم الله تعالى- للقرآن الكريم:
مر بنا أن الصحابة -رضي الله عنهم- انتشروا في الآفاق الإسلامية والبلدان المفتوحة يُعلِّمون الناس أمور دينهم، ويعقدون حلق التعليم والتدريس في مساجد تلك البلدان، وأقبل عليهم كثير من الناس يتحلقون حولهم، ويتلقون العلم منهم، وصار لبعض هذه المدارس شهرة كبيرة حملت كثيرًا من التابعين على الرحلة إليها، وتلقي العلم من أهلها، كمدرسة ابن مسعود -رضي الله عنه- في الكوفة، ومدرسة أبي بن كعب -]- في المدينة، ومدرسة ابن عباس -رضي الله عنهما- في مكة، وغيرها من مدارس الصحابة، رضي الله عنهم.
وكان الصحابة يعلِّمونهم القرآن الكريم ويحفظونهم إياه، ويفسرون لهم معانيه، ويبينون لهم أحكامه، وقد أقبل التابعون على هذه المدارس، فكثر حفاظ القرآن الكريم، ولم يقتصروا على تلاوته، بل حفظوا أوجه قراءته، واشتهر عدد كبير من الحفاظ بالقراءة والرواية.
وتجرد بعض التابعين -رحمهم الله تعالى- للعناية بضبط القراءات وإتقانها، ووضع القواعد لها والأصول حتى صاروا أئمة يُقتدى بهم.
حفظ القرآن الكريم في العصر الحديث:
أما في العصور الحديثة فما زالت المسيرة -والحمد لله- مستمرة، يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم مع تكالب الأحوال على المسلمين، واضطراب المعيشة، ومغريات الحضارة، وتوافر الموانع، وانحسار الدوافع، وما زلنا نرى كثرة حفاظ القرآن الكريم، ونجد إقبالاً لا يخطر ببال، ولا يحلم بمثله أهل كتاب.
فقد انتشرت مدارس تحفيظ القرآن الكريم العديدة، وأنشئت معاهد للقراءات وكليات القرآن في العديد من الدول الإسلامية،والحمد لله.
خصائص جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور:
ولهذا النوع من الجمع مزايا وخصائص، منها:
- أن جمع القرآن بمعنى حفظه هو أول علم نشأ من علوم القرآن الكريم، وذلك أنه حين نزل الوحي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء، وجرى ما جرى، تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نَزل عليه من القرآن على خديجة، وذلك من حفظه، فهو أول علم نشأ من علوم القرآن.
- أنه دائم لا ينقطع- إن شاء الله- فقد حفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن، وحفظه أصحابه والتابعون ومن بعدهم، وما زال المسلمون يحفظونه إلى أن يأذن الله برفعه، بخلاف جمعه بمعنى كتابته فقد مر بثلاث مراحل، آخرها في عهد عثمان رضي الله عنه.
- أن الحفظ في الصدور خاص بالقرآن، وليس هناك كتاب يحفظه أهله غير القرآن.
- أنه يجب على كل مسلم أن يحفظ من القرآن ما يؤدي به الصلوات بخلاف جمعه بمعنى كتابته وتدوينه، فلا يجب على كل مسلم.
- الوعيد لمن حفظ شيئًا من القرآن ثم نسيه.
لاتوجد تعليقات