رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: محمود طراد 1 يوليو، 2020 0 تعليق

دعوى أن اختلاف الأئمة ينقض الشريعة

 

لقد أرسل الله -تعالى- رسوله بالهدى ودين الحق كما جاء في القرآن الكريم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} (التوبة: 33), وهذا الدين الحنيف السمح قَيَّضَ الله -تعالى- له أئمة مهتدين، نقلوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى من جاء بعدهم، وأول من قام بواجب النقل والرسالة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - هم الصحابة -رضوان الله عليهم-، ثم أخذ عنهم التابعون وتابعوهم، وقد كان من منة الله -تعالى- على عباده أن جعل في أمة نبيه أئمة كبارا مثل: أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، الذين قدر الله -عز وجل- أن يكونوا أعلام هذه الأمة, وحملة فقهها إلى من جاء بعدهم، وعلى قواعدهم التي استنبطوها عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قام الفقه الإسلامي، وهذا ما نؤمن به, غير أن هناك دعوى أخرى يروجها دعاة التنوير، تخص هذه المذاهب؛ فما تلك الدعوى؟ ولماذا؟

دعوى التنويريين ضد الأئمة

     يقولون: إن المذاهب أربعة، والاختلاف كبير، ولا ندري أي المذاهب أصح نقلاً عن رسول الله -[- ولو كانوا جميعاً على الحق ما اختلفوا!. وهذه الدعوى أيها القارىء الكريم لها هدف خبيث، وهذا الهدف، هو تزهيد الناس في الفقه, ومن ثم الانقضاض على نصوصه التي بني عليها، ومن ثم محو الشريعة كلها بدعوى أن نصوصها تقبل احتمالات عدة، ولا ندري أي الاحتمالات أصوب، فلننتبه جيداً إلى هذه الخطة الطويلة المدى الخبيثة الغاية والهدف.

لماذا اختلفوا؟

     لا يحدث شيء في الأرض إلا لحكمة يعلمها الله -تعالى-، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، قال -تعالى-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون 115)، وأئمة المذاهب -رحمهم الله تعالى- أئمة هدى, «وكلهم من رسول الله ملتمس»، ولو أراد الله -تعالى- ألا يكون هناك خلاف بين المذاهب لفعل، لكنه -تعالى- جعل خلاف الأئمة لحكم عظيمة واختبار للمسلمين، ليظهر تعاملهم مع الخلاف، ومن تلك الحكم: بيان أن الإسلام ترك مساحة كبيرة لأهل العلم لإعمال عقولهم، وقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في تعليمه للصحابة الاجتهاد، وأكد ذلك في كلامه كما جاء في الحديث المتفق عليه: «ذا حَكَمَ الحاكِمُ فَاجتَهَدَ ثُمَّ أَصابَ فَلَهُ أَجرانِ، وَإِذا حَكَمَ فَاجتَهَدَ ثُمَّ أَخطَأَ فَلَهُ أَجرٌ».

الاختلاف في الفروع لا في الأصول

     دعوى التنويريين أن اختلاف الأئمة يطعن في الدين، دعوى مردودة ومرفوضة؛ لسبب بسيط جدًّا, وهو أن الأئمة لم يختلفوا في أصول الدين, لكنهم اختلفوا في فروعه التي تقبل الاختلاف, ولو كان فيها من النصوص التي لا تقبل خلافاً لما اختلفوا؛ لأنهم يرجعون إلى الأصول نفسها، فما يريده دعاة التنوير الآن هو إبراز المذاهب على أنها أديان مختلفة، وهذا غير صحيح؛ فليس بين المذاهب خلاف في أصول الدين، بل خلافهم في الفروع المبنية على أدلة ظنية،  تختلف الأفهام فيها، وقد عدَّ العلماءُ الاختلافَ في مسائل الفقه اختلافَ رحمة لا اختلاف نقمة، قال القاسم بن محمد -رحمه الله تعالى-: «كان اختلاف أصحاب رسول الله رحمة للناس». وقال الإمام مالك - رضي الله عنه - لهارون الرشيد -عندما أشار عليه أن يحمل الناس على كتبه-: «يا أمير المؤمنين، إنَّ اختلاف العلماء رحمة من الله -تعالى- على هذه الأمّة، كلٌّ يتَّبع ما صحَّ عنده، وكلهم على الهُدى، وكلٌّ يريد الله -تعالى» ولو كان اختلافهم في الأصول لما كان في ذلك رحمة، ولما قبله الأئمة من قبل.

الأئمة على خطى الصحابة

     عَنْ نافع، عَنْ عبدالله، قَالَ: «نَادَى فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ انْصَرَفَ عَنِ الْأَحْزَابِ: أَلَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ، فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ، قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ». ورد هذا الحديث في صحيح مسلم ليعلمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم الصحابة، أنه قد يحدث خلاف في فهم النص الواحد، بما لا يتعارض مع أصل من أصول الدين, ولا يتعارض مع اللغة ومضامينها، فها هم الصحابة قد اختلفوا في فهم نص واحد وهو: «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة»، بعضهم يرى أن المقصود صلوا العصر هناك، وبعضهم فهم أن المقصود الوصول سريعاً فصلوا ثم خرجوا، وما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه لم يعنف منهم أحداً، بل لم يقل لأحد أخطأت وأصاب أخوك.

النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الصحابة الاجتهاد

     سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل قبل أن ينطلق إلى اليمن أسئلة عدة، قال له: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال أقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله, قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله». وهذا من تعليم الصحابة الاجتهاد فيما يَجِدُّ من أحداث؛ فيكون اجتهادهم في ضوء الشريعة، وقد يختلف المجتهدون في المسألة الواحدة، لكنهم ينطلقون جميعاً من قواعد الدين التي لم يختلفوا يوماً عليها، وهذا ما حدث في الفقه. وقد جاءت السنة بما يفيد اجتهاد الصحابة في مواقف أقرهم عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد علمهم بها.

رفع الملام عن الأئمة الأعلام

     كتاب صنفه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، يذكر فيه الإمام أسباب اختلاف الأئمة، يقول فيه: «وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة يتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر لتركه».

وقد تلاحظ -أخي الكريم- أن هذا الاقتباس القصير يؤكد على أمور عظام عدة:

- أولها: أن الأئمة متفقون في الأصول التي منها وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا نكير.

- ثانيها: أن كل إنسان يخطئ ويصيب, ويؤخذ من قوله ويرد, إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فليس هناك خطأ في بلاغه الرسالة التي جاء بها, أما بقية الناس فيؤخذ منهم ويترك.

- ثالثها: أن الأئمة لا يتعمدون مخالفة رسول الله أبداً, ولو ترك أحدهم العمل بحديث فلا بد له من مسوغ ترك به هذا الحديث.

مسوغات الخلاف

     مما ذكره الإمام ابن تيمية في رفع الملام عن الأئمة الأعلام: عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بهذا القول؛ فقد يصل الحديث إلى الإمام من طريق لا يصح، ومنها: عدم اعتقاده إرادة هذه المسألة بهذا القول، ومنها: اعتقاده أن هذا الحكم منسوخ، ومنها: أن يكون الحديث قد ثبت عنده لكنه قد نسيه، ومنها: الاعتقاد أن الدلالة في الحديث لا يؤخذ بها، ومنها: أن الحديث قد يكون عنده معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله.

الحكم على الدعوى

     مما سبق من بيان أن الأصول عند الأئمة واحدة، وأن ما يحدث فيه الخلاف بين الأئمة مما يقبل الاجتهاد والظن، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى خلاف الصحابة في مثل هذا فلا ينكر عليهم ولا يعنف منهم أحداً، وأنهم لم يتعمدوا أبداً مخالفة النبي, وأن كل من ترك العمل بحديث منهم فإن له في ذلك مسوغا وسببا، من هنا يتبين لنا عوار ما يقوله النتويريون: من أن الخلاف بين المذاهب يطعن في الشريعة نفسها, بل قد يكون الخلاف مما فيه إثراء وخير. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك