رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علاء بكر 18 فبراير، 2019 0 تعليق

دعوة للتأمل (2) اليهود في القرآن المكي

استكمالا لما تحدثنا عنه في المقال السابق عن اليهود في القرآن المكي؛ حيث ذكرنا أن الصراع الحالي بين اليهود والفلسطينيين -ممثلًا في احتلال الصهيونيين لفلسطين والاستيلاء على المسجد الأقصى- يعد أول صراع بين المسلمين واليهود؛ فقد شهد ظهور الإسلام في المدينة بعد الهجرة إليها وإقامة المجتمع الإسلامي الأول فيها تآمر اليهود على المسلمين وتكرار غدرهم بهم، رغم كل ما أبداه المسلمون مِن سماحة وتقبُّل لوجود اليهود معهم في المدينة رغم الاختلاف العقائدي، وهو ما لم يقدره اليهود وأساؤوا التعامل معه بالغدر والخيانة، وإظهار الحقد والحسد!

     وبعد تقرير هذه المعاني عن اليهود في نفوس المسلمين، يأتي الإخبار من الله -تعالى- الحكم العدل أنه سيبعث عليهم مَن يسومهم سوء العذاب جيلًا بعد جيل وإلى يوم القيامة، قال -تعالى-: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأعراف:167). وهذا الإعلام الإلهي المؤكد يشير بوضوح إلى استواء أجيال اليهود في الظلم والفسوق، وإلى استحقاق هذه الأجيال على السواء لسوء العذاب مِن الله -تعالى-؛ ولهذا يبعث عليهم مِن الأمم التي تبتلى بهم وبفسادهم مَن يسومهم سوء العذاب بما كسبت أيديهم جزاءً لهم على إفسادهم في الأرض.

عقوبة الشتات

      ويخبر القرآن المكي أن الله شتتهم في الأرض عقوبة لهم، وابتلاهم بالشدة والرخاء لعلهم يعودوا إلى الحق والصواب، قال -تعالى-: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف:168)، ولكنهم في الشتات ازدادوا ضلالًا، واتخذوا الأحبار أربابًا من دون الله وابتدعوا في دين الله -تعالى-، فكان الخلف منهم أسوأ مِن أسلافهم؛ إذ مالوا إلى الحياة الدنيا، وأهملوا الدين والعمل للآخرة، وزعموا لأنفسهم ما ليس لهم، واستعلوا على غيرهم، وزعموا أنهم شعب الله المختار وأحباؤه؛ لذا سيغفر لهم كل خطيئة، وهذه المزاعم الباطلة يمتلئ بها كتابهم (التلمود) الذي كتبه لهم أحبارهم؛ فصار كتابًا مقدسًا عندهم إلى جانب التوراة التي حرفوها، قال -تعالى-: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأعراف:169).

ضلال بعد علم

     وتأمل ما في هذه الآية مِن بيان أن ضلالهم جاء بعد العلم؛ فهم (وَرِثُوا الْكِتَابَ) و(وَدَرَسُوا مَا فِيهِ)، ولكن حبهم للدنيا وحرصهم على متاعها القريب الأدنى أعماهم (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى)، ويسوغون لأنفسهم ما يفعلون بالكذب على الله ونسبة هذا الكذب إلى الوحي! وهم مأمورون بألا يقولوا على الله إلا الحق {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}.

مِن شناعة أفعالهم

     وفي موضع آخر يذكر القرآن المكي أنه مِن شناعة أفعالهم وعنادهم وعصيانهم رفع فوقهم جبل الطور، وخيِّروا بيْن الإبادة والعمل بالشريعة، قال -تعالى-: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأعراف:171)، وللتعرف على مدى العصيان والمشاقة التي هم عليها نذكِّر القارئ أن القرآن المدني أخبر عنهم أنهم عادوا بعد هذا الموقف الرهيب إلى العصيان والمشاقة بعد زوال التهديد الذي تعرضوا له؛ حيث قال الله -تعالى- في سورة البقرة عن هذا الموقف: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} (البقرة:93).

إعجاز قرآني

      ولا يخفى بعد كل ذلك أن هذه الآيات في القرآن المكي وما كشفته عن حقيقة اليهود جملة وتفصيلًا قبْل انتقال المسلمين إليهم أو التفكير في ذلك وبهذه الكيفية؛ هي معجزة مِن معجزات هذا الكتاب المبين، الدالة قطعًا على أنه من عند الله -تعالى-؛ وإلا فكيف جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل هذا عنهم وهو ليس مِن علمائهم وأحبارهم، ولم يدرس باستفاضة كتبهم.

     وصدق الله -عز وجل- القائل: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (الفرقان:6)، والقائل: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:41-42)، والقائل: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال:7-8).

العدل والإنصاف مِن خصائص القرآن

     رغم ما كان عليه أغلب اليهود مِن الكفر والضلال؛ فقد كان فيهم أهل إيمان وصلاح، فلم يبخس القرآن الكريم هؤلاء المؤمنين حقهم، بل أشار إليهم وأثنى عليهم؛ لأنهم بريئون من كفر باقي اليهود وضلالهم، قال -سبحانه وتعالى-: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آل عمران:113-115)، وقال -تعالى- في سورة الأعراف أيضًا: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف:159)، وقال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة:24)، فهل رأيت إنصافًا كهذا الإنصاف، الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويعطي كل ذي باطل ما يستحقه؟ (راجع: «معركة الوجود بين القرآن والتلمود»، دكتور عبد الستار فتح الله سعيد).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك