رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 2 يناير، 2012 0 تعليق

دعاء لفلسطين من البوسنة والهرسك

 

وفقني الله تعالى للمشاركة في عقد برنامج تدريبي في سراييفو – عاصمة البوسنة والهرسك-  بعنوان: «الوقف والعمل الخيري والتطوعي» في الفترة من 26- 30 /9/2011م، في إطار البرامج التدريبية التي تنفذها الأمانة العامة للأوقاف- الكويت - في الدول العربية والإسلامية، لتأهيل المتطوعين، وإحياء ثقافة التطوع ونشرها وتعزيز مفهوم الوقف، وفنون إدارته ورعايته. 

       وكان اختيار مديرية الأوقاف في البوسنة والهرسك - الجهة المنظمة للدورة - للفندق موفقاً فهو في مركز مدينة سراييفو، وبالقرب من وقف الغازي خسرو بك والمتمثل في المسجد والمدرسة والمحلات التجارية والمرافق التي اتسعت بعد ذلك لتكون مدينة سراييفو. 

       والأوقاف الإسلامية في البوسنة والهرسك بدأت بالظهور مع بداية الوجود العثماني الرسمي فيها، وتعد تسمية بعض المدن بالوقف أكبر شاهد على دور الأوقاف في تطوير البوسنة والهرسك وظهور المراكز الحضرية فيها، مما تبعه ظهور المراكز الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية، وكتأكيد لدور الأوقاف الإسلامية في البوسنة سُمّيت خمس مدن باسم الأوقاف مثل مدينة غوريني وقف «الأوقاف العليا»، ومدينة دونيي وقف «الأوقاف الصغرى»، ومدينة إسكندر وقف «وقف إسكندر، و«كولن وقف»، و»مدينة وقف» وتسمى حالياً سانسكي موست. كما أن بعض المدن الحالية كانت تحمل في اسمها كلمة وقف، مثل مدينة مركونيتش غراد التي كان اسمها في السابق فارتسار وقف.

       ومن الأمور التي أسعدتني في زيارتنا للبوسنة والهرسك أن خطبة الجمعة التي صليناها في مسجد الغازي خسرو بك، كان موضوعها عن فلسطين ومأساتها، وواجب المسلمين وقادتهم تجاهها. نعم لم أستوعب من الخطبة إلا كلمات قليلة - لأنها كانت باللغة البوسنية – إلا أنني أيقنت أن أمتنا أمة واحدة همومها مشتركة، وآمالها وتطلعاتها متقاربة ولو بعدت المسافات.

       وخلال قراءتي لمأساة فلسطين، ومعايشتي لتفاصيل مأساة البوسنة والهرسك المعاصرة، وجدت الكثير من التشابه بل التطابق في الكثير من الأحداث والممارسات والاعتداءات التي مست فلسطين، وكذلك البوسنة والهرسك، وما يحزنني أن كلتيهما قد نالها ما نالها من قتل وتشريد، واعتداء على المساجد والمقابر والتاريخ والوجود.

       ففي فلسطين عدد المساجد التي اعتدى عليها اليهود بلغ 1200 مسجد، وقد حول بعضها إلى بارات ومراقص ومطاعم ومساكن، وكذلك في البوسنة والهرسك فقد تم تدمير أكثر من 1400 مسجد خلال الحرب الصربية، وما يقاربها في العدد خلال الحكم الشيوعي اليوغسلافي.

       ومسلسل سلب الأوقاف الإسلامية في فلسطين والبوسنة والهرسك ما زال مستمراً، بحجج متشابهة فأحياناً كونها أراضي غائبين، وأخرى أنها أملاك للدولة، وتيقنت بأن كل من أراد أن يسلب أمة هويتها وتاريخها وثباتها على أرضها جعل من الوقف هدفاً للتدمير والسلب والاعتداء والتشكيك. حقاً لقد وعى كل محتل الدور الذي يقدمه الوقف من حفظ الدين وحفظ كرامة المسلم، فكانت الحرب على الأوقاف هو ديدن كل معتدٍ.

       وموقف منظمة اليونسكو السلبي من الأوقاف في فلسطين والاعتداء عليها من قِبل المحتل الصهيوني، هي موقف اليونسكو نفسه من الأوقاف الإسلامية في البوسنة والهرسك.

       وكما أن فلسطين كلها وقف إسلامي وقفها عمر رضي الله عنه حين فتحها, فكذلك سراييفو بنيت من أملاك الأوقاف، ومنها أوقاف عيسى بك إسحاقوفيتش، وأوقاف الغازي خسرو بك، وما نشاهده من دكاكين، وأسواق مسقوفة، وقناطر، وجسور، وشبكات المياه الكثير منها وقف، بل ثلاثة أرباع مساكن سراييفو، جميعها كانت ملكا للأوقاف.

       وفي ختام الخطبة أمَّن المصلون على دعاء الخطيب لفلسطين بأن يحفظ أهلها ومقدساتها وأن تسترد أراضيها المغتصبة، ونسأل الله أن يحفظ فلسطين والبوسنة والهرسك وكل أوطان المسلمين. 

مشاهد ووقفات في سراييفو:

       حينما هبطت الطائرة في مطار سراييفو، أحسست وكأن الزمن يعود إلى الوراء ما بين عام 1992-1995م، والذاكرة تعيد لي مشاهد الدمار والدماء لحرب ظالمة شنها الصرب الحاقدون على البوسنة والهرسك، التي حصدت مأساتها مئات الألوف من أرواح المسلمين، لقد أحسست وأنا أنظر في معالم ومنشآت المطار، وكأنها شواهد على سنوات عصيبة شهد المطار الكثير من أحداثها. بدأ هذا الإحساس يتراجع، حينما استقبلنا ممثلو السفارة ومديرية الأوقاف، الذين لم يألوا جهداً في تسهيل مهمتنا، وبدأت الصورة القاتمة التي تربعت في ذهني تتراجع شيئاً فشيئا.

       في سراييفو مبان في غاية الجمال، تعكس روعة الهندسة المعمارية العثمانية، ويزيدها جمالا الهدوء الذي يتسم به أهلها، واحترامهم لبعضهم، وترحيبهم بالضيوف، وطعامهم اللذيذ، والجو الممتع في فصل الصيف، والمساجد المنتشرة في المدن والقرى، وفي كلّ جهة من جهاتها ترى أنهارها الكثيرة، وعيون الماء العذب المتدفقة بغزارة.

       ومن المشاهدات التي استوقفتني، رأيت في مركز العاصمة، خطاطا بوسنيا يخط بالعربية، وخطه في غاية الجمال، ومع ذلك لا يتكلم العربية. وأعجبني أن كل من وقف مسجداً أو مدرسة – حتى الجديد منها - يكتب وثيقة الوقف واللوحة المثبتة على باب المسجد باللغة العربية أولا ًثم باللغة البوسنية. وكذلك كل من تكلم معك بالبوسنية - بواسطة مترجم - يعتذر بداية أنه لا يتقن العربية، وهذا من تقديرهم واحترامهم ورغبتهم في تعلم اللغة العربية.  

       وخلال فترة زيارتنا لسراييفو كنا نصلي في مسجد الغازي خسرو بك المقابل تماماً لمدرسة الغازي خسرو بك في سراييفو، وكان الطلاب يملؤون المسجد في صلاة الفجر والصلوات الأخرى، مشهد أثلج صدري. وأسعدني ما سمعناه من إخواننا هناك بأن الأوضاع تغيرت بعد الحرب، من إقبال ملحوظ على حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ الإسلام، وتزايد ارتداء الحجاب بين نساء المسلمين، والتوسع في طباعة المصاحف، وأمهات الكتب الإسلامية، وحرص جيل الشباب على تعلم العربية والالتحاق بالجامعات الإسلامية بعكس ما كان قبل اندلاع الحرب؛ ولهذا أكد الكثيرون أن الصرب والكروات لو فطنوا إلى ما ستؤدي إليه الحرب في البوسنة من ربط شعبها بالإسلام لما شنوا هذه الحرب.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك