درّس في بيت الله الحرام أكثر من ستة عقود – الشيخ يحيى عظيم آبادي المكي في ذمة الله
فقدت الأمة الإسلامية عالمًا من علمائها الأبرار الذي درّس بجوار بيت الله الحرام أكثر من ستة عقود، وكان والده أيضا مدرّسًا في المسجد الحرام، ولقّب بالمُدَرِّس لكثرة تدريسه، هو الشيخ يحيى ابن الشيخ عثمان بن الحسين عظيم آبَادِي المكي أبو زكريا المُدَرِّس -رحمه الله- بعد معاناة مع المرض يوم الأربعاء منتصف ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام ألف وأربعمائة وثلاث وأربعين للهجرة النبوية 23/ 6/ 1443هـ.
اسمه ونسبه ونِسبته
هو يحيى ابن الشيخ عثمان بن الحسين عظيم آبَادِي المكي أبو زكريا المُدَرِّس، والآبادي: نسبة إلى مدينة عظيم آباد، وهي مدينة هندية كبيرة، وتعرف الآن باسم (بتنا) أو (بتنه - Patna)، والمُدَرِّس: لقبٌ للشيخ؛ لكثرة تدريسه؛ فقد درّس بجوار بيت الله الحرام أكثر من ستة عقود، وكان والده أيضا مدرّسًا في المسجد الحرام ويُلقَّب بالمُدَرِّس كذلك.
مولده
ولد الشيخ -رحمه الله- في مكة المكرمة وتحديدًا في حي أجياد الذي كان يسمى (محلة أجياد)؛ حيث كان بيتهم، وذلك في اليوم الخامس -وقيل: الخامس والعشرين- من شهر شعبان عام أربع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة.
نشأته العلمية
امتن الله عليه بأن نشأ في بيت علم وفضل وتقى؛ فقد كان والده من أهل العلم والفضل، ومن شدة اشتهاره بالتدريس لقِّب بالمُدَرِّس، وقد تعيَّن مدرسا بالمسجد الحرام منذ عام 1349هـ، وهو من تلاميذ العلامة السيد نذير حسين الحسيني الدهلوي، يقول الشيخ يحيى عن والده -رحمهما الله-: «كان والدي يدرس باللغة العربية، وهو سلفي العقيدة على مذهب أهل الحديث»، ومن هنا شقَّ طريقه للعلم؛ حيث بدأت نشأته العلمية على يد والده، فعليه تأدَّب، ومن منهله نهل، وعلى يديه حفظ القرآن الكريم، يقول الشيخ: «حفّظني الوالد -رحمه الله- القرآن العظيم -جزاه الله خيرًا-، ثم أدخلني -رحمه الله- مدرسة دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة».
وبعد والده -رحمه الله- كان تأسيسه العلمي في دار الحديث الخيرية، فبدأ يسير في طريق طلب العلم ومعه محابره وقماطره، يَثني الركب عند مشايخ الدار، فهناك تعلم العلوم، ودرس أغلب الكتب والمراجع التأصيلية، من: تفسير للقرآن، وعناية بالأحاديث ومصطلحها وشروحها ودراسة لفقهها، إلى جانب المراجع التأصيلية في العقيدة، حتى تخرج فيها عام 1375هـ، وقد قرأ القرآن مجوّدًا على الشيخ أبو السمح عبد المهيمن محمد نور في حلقته في المسجد الحرام، ودرس عليه التجويد أيضًا، يقول الشيخ يحيى: «ودرست على الشيخ عبد المهيمن أبو السمح (إمام المسجد الحرام) القرآن العظيم غيبًا».
أبرز شيوخه
من أبرز العلماء الذين قرأ عليهم: والده الشيخ العلامة أبو عبد الله عثمان بن الحسين عظيم آبادي المدرس (1294هـ-1375هـ)، والشيخ العلامة سليمان بن عبد الرحمن الحمدان (1322هـ-1397هـ)، والشيخ العلامة أبو محمد عبد الحق بن عبد الواحد بن محمد الهاشمي (1302هـ-1392هـ)، والعلامة أبو السمح عبد المهيمن محمد نور الفقيه المصري إمام وخطيب المسجد الحرام (1307هـ-1399هـ)، والشيخ العلامة أبو الحسن عبيد الله بن عبد السلام الرحماني المباركفوري (1327هـ-1414هـ)، والشيخ العلامة محمد بن عبد الرزاق بن حمزة بن تقي الدين المصري إمام الحرمين (1308هـ-1392هـ)، والشيخ العلامة محمد عبد الله نور إلهي الهندي المدرس بدار الحديث والمسجد الحرام (1310هـ تقريبًا-1400هـ)، والشيخ العلامة محمد بن عبد الله بن أحمد الأغاديني الصومالي (1335هـ تقريبًا-1420هـ)، والشيخ محمد بن عمر بن عبد الهادي الشايقي السوداني (1321هـ-1416هـ)، والشيخ ناجي بن محمد بن سيف المخلافي (1343هـ-1415هـ)، والشيخان إبراهيم الخلوصي، وعارف خوجه.
جهوده
سيرة الشيخ يحيى -رحمه الله- سيرة مباركة حافلة بالإنجازات العظيمة والجهود الجليلة التي سطّرها في حياته، وإن تعجب فعجبٌ ما كان من أمر الشيخ من تدريسه لطلبة العلم من أقرانه في فترة دراسته في دار الحديث كما ذكرنا سابقًا، وتلك كانت باكورة جهوده العلمية التي لا تكاد تعرف اليوم لما رزقه الله من ثمار وجهود تلته، ومن أهمها:
(1) تدريسه بالمسجد الحرام
الشيخ يحيى -رحمه الله- كان درة من درر أهل العلم في المسجد الحرام، فقد عرفت جدران المسجد الحرام وأعمدته وأروقته جَلَده وصبره على التدريس فيه، ولا يكاد يدخل الداخل بين العشاءين للرواق العثماني من المسجد الحرام من جهة باب العمرة وباب المدينة إلا ويسمع صوته وهو يفسر آية أو يشرح حديثًا أو يدعو إلى فضيلة وينهى عن رذيلة، مكث على ذلك قريبًا من (68) سنة؛ حيث تصدر للتدريس فيه منذ عام 1372هـ حتى عام 1440هـ تقريبًا، والشيخ يعد ركنًا من أركان الحرم المكي لا يفارقه؛ فلا يكاد الشيخ يفارق كرسيه إلا لأداء مناسك الحج أو لراحته الأسبوعية يوم الخميس أو إجازته السنوية المعتادة، وذات مرة قطعه عن الدرس إصابته بجلطة أقعدته في المستشفى، وحاول مع الأطباء للسماح له بالذهاب للدرس ولكن منعوه من ذلك؛ ولم يكد الشيخ يخرج من المستشفى حتى عاد إلى الدرس في بضعة أيام، وكان يقرأ بنفسه في درسه ويشرح ويرجّح، يقول تلميذه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحاج التمبكتي: «فقدنا بفقده قدوة قلَّ نظيرها، وإمامًا في أبواب لم نر مثله فيها، وباختصار فقد كان بقية السلف بحق».
(2) تدريسه بدار الحديث الخيرية
يكاد يكون الدرس العلميّ تاجًا مرصَّعًا بالجواهر في حياته، فكما أن الله أكرمه بطول الزمان الذي درس فيه أكرمه بكثرة الأماكن التي درس فيها، ففضلا عن تدريسه في المسجد الحرام درَّس الشيخ في دار الحديث الخيرية قريبًا من (14) عامًا؛ حيث بدأ التدريس فيه منذ عام 1376هـ حتى عام 1390هـ.
(3) تدريسه بمعهد الحرم المكي الشريف
في عام 1390هـ استدعاه الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- للتدريس في معهد الحرم المكي الشريف، فانتقل إليه تتميمًا لحاجة المعهد ورغبة الشيخ، وقد درّس -رحمه الله- في معهد الحرم المكي (37) سنة؛ حيث بدأ التدريس فيه منذ عام 1391هـ حتى عام 1428هـ.
(4) إمامته بالمسجد الحرام
تولى الشيخ -رحمه الله- إمامة المصلين بالمسجد الحرام قريبًا من شهرين بالنيابة عن شيخه الشيخ أبو السمح عبد المهيمن الذي تعلم عليه القرآن، ففي عام 1381هـ أو 1382هـ مرض الشيخ أبو السمح، فطلب منه إمامة المصلين في المسجد الحرام في صلاتي الفجر والعشاء، وقد استمر ذلك قرابة شهرين.
(5) الإفتاء والتوجيه والإرشاد بالمسجد الحرام
كان الشيخ -رحمه الله إلى جانب تدريسه في المسجد الحرام- يبذل وقته ويجيب السائلين ويفتي المستفتين من رواد المسجد الحرام؛ فبعد أن تقاعد وترك التدريس في المعهد صباحًا عام 1428هـ كان يستغلّ وقته في فترة الصباح في إفادة السائلين وإجابة المستفتين من رواد الحرم المكي، وقد استمر في التوجيه والإرشاد قريبًا من عشرين سنة.
(6) وعظه ونصحه للناس في مسجد الخيف
ومن جهوده التي تذكر -رحمه الله- أنه كان يعظ الحجاج وينصحهم ويوجّههم إلى السُّنة في مسجد الخيف بمشعر منى، وفي مسجد المشعر الحرام بمزدلفة عام 1380هـ وما بعده.
(7) تعيينه واعظًا بسجن مكة المكرمة
عين الشيخ -رحمه الله- واعظًا بسجن مكة المكرمة من قبل سماحة رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ آنذاك، ولم يستمرّ الشيخ في ذلك، واعتذر عام 1377هـ بسبب انشغاله بالتدريس.
مصنفاته
لم يصنف الشيخ كتابًا، وإنما آثر أن ينشغل بما حُبّب إليه وفتح الله فيه عليه وهو التدريس، وكان يقول: «حُبِّب إليَّ التدريس».
نصرته للتوحيد وحرصه على السنة
عرف الشيخ -رحمه الله- بتقفّيه أثر المصطفى -عليه الصلاة والسلام- في كل حركاته وسكناته، كما عرف بشدّته على البدع وأهلها، يقول عنه تلميذه الشيخ عبد الرحمن بن شميلة الأهدل: «أثريّ المشرب، سلفي المنزع، يتقفى السنة ويتروّى من مناهل الأبرار رافعـًا لـواء التوحيد؛ لأنـه قـاعدة النجاة وأسّ الفوز، سالكًا مهيع أولي الاستقامة، شديد العارضة على البدع ومنتحليها، فطالما سدّد إلى تلك البدع سهام الشرع من كنانة الحقّ، ومحا ديجور ظلامها بنور السنة».
عبادته وأخلاقه
كان الشيخ -رحمه الله- كالمتجوّل في حديقة غناء، يقطف من الأخلاق أزكاها، وينتقي من بساتين الفضائل أعطرها، فقد عرف الشيخ -رحمه الله- بنُبل أخلاقه وحُسن سمته وكَرم شيمه، فكان العابد الزاهد المتواضع الذي تعدّ كلماته، شريف النسب والنفس، وكان يصل الليل والنهار في عبادة الله وطاعته -سبحانه وتعالى- وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وأعمال الخير والبر، وكان مثالًا في العبادة والأخلاق، وأبرز ما في ذلك عنايته بتلاوة القرآن، وكان -رحمه الله- وقافًا عند أوامر الله منتهيًا عند نواهيه، ويذكر الشيخ عبد الرحمن الأهدل أنه كان ذا تواضع جم، وعناق للإحسان وبذل للمعروف وبعد عمَّا لا يعني، ووقوف عنـد حدود الله، وكان -رحمه الله- قليل الكلام كثير الذكر لله -سبحانه وتعالى-، وقد حرص الشيخ -رحمه الله- على المتابعة بين الحج والعمرة، فلم يؤثر عنه أنه ترك الحج حتى في فترة مرضه وملازمته للكرسي، فكان يحج وهو مقعَد عليه، ولم يتوقف حج الشيخ إلا منذ سنتين (1441هـ) قبل وفاته -رحمه الله-، وكان يحج في آخر عمره وهو على كرسي متحرك.
نشاط عجيب وجهد طيب مبارك
قال عنه الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد: «وللشيخ نشاط عجيب وجهد طيب مبارك؛ من حيث الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وحلقاته في المسجد الحرام معروفة مستمرة منذ عرفت نفسي طالبًا، وحلقته قائمة لا تنقطع صيفًا ولا شتاءً، في المواسم وفي غيرها، وله صوت نديّ شجيّ مبارك، وكانت حلقته مما يلي باب السلام، يسمع درسه الطائفون من غير مكبّر الصوت، ثم انتقلت حلقته إلى ما يلي باب العمرة، ولما كثر طلابه جدًّا جاؤوا بمكبر الصوت».
لاتوجد تعليقات