دروس من قصص القرآن الكريم – قصة هود عليه السلا م
- كانت بعثة هود عليه السلام في قوم من العرب كانوا يسكنون الأحقاف وهي منطقة بين عمان واليمن على الراجح من أقوال المفسرين
- تمحورت دعوة هود عليه السلام حول ركائز ثلاثة الأولى التوحيد والثانية تحقيق التقوى والثالثة الاستغفار
- الدين لا يتعارض مع الدنيا إلا حين يطغى الإنسان ويتجاوز حده في الكفر والفساد فعند ذلك يحصل التصادم والصراع
إن مما أورده الله -تعالى- في القرآن من قصص أنبيائه قصة نبي الله هود -عليه السلام-، وقد ذُكرت في القرآن في ثماني سور، وسُميت سورة من السور باسمه، لبيان أهمية دعوته، فقد اشتملت دعوته -عليه السلام- على تنبيهات وتوجيهات، يدوم نفعها على من يعيها ويعمل بها في كل زمان ومكان.
وإن هودًا -عليه السلام- كان من أكثر الأنبياء جرأة في دعوته، وتحديًا لقومه، وتوكلاً ويقينًا في الله -تعالى-، حتى قال بعض العلماء: إن معجزة هود -عليه السلام- هي أنه تحدى قومه بشجاعة، وهو فرد لا سند له إلا الله، بينما قومه كانوا أغنياء وأشداء، قال -تعالى-: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} (فصلت: 15)، وقال أيضاً: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)} (الفجر: 7- 8)، فكانوا أشداء عظام الأجسام، ومع ذلك فإنه كان يقول لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} (هود: 54-56).بسالة هود -عليه السلام
إن من أهم أهداف ورود قصة هود -عليه السلام- في القرآن الكريم، أن الله -تعالى- أراد لنبيه محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يتمثل بسالة هود في دعوته وحسن اعتماده على ربه، وقد وجهه -سبحانه وتعالى- إلى ذلك توجيهاً صريحاً فقال له: {قل} يعني يا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (الأعراف: 195- 196)، فعلى قدر إيمان الداعية بدعوته يجب أن يكون صبره وجلده وشجاعته في تبليغ هذه الدعوة.الأحقاف ديار قوم عاد
لقد كانت بعثة هود -عليه السلام- في قوم من العرب كانوا يسكنون الأحقاف، وهي منطقة بين عمان واليمن على الراجح من أقوال المفسرين، وكانوا قد أنعم الله عليهم وأغناهم، ورزقهم من الطيبات، فأنشؤوا حضارة عريقة مزدهرة، وكانت لهم أعمال كثيرة بعضها نافع في نفسه وبعضها كانوا يقصدون منه اللهو واللعب، وإن هذه الأعمال التي شيدوها مع ما هم فيه من قوة جسمانية، جعل كل ذلك فيهم زهواً وغلظة على غيرهم؛ مما زاد في كبرهم وطغيانهم وركونهم إلى الدنيا. إن عاداً كفروا ربهم: لقد تعمقت في نفوسهم عوامل الكفر بالله، وإيمانهم بالمادة، بسبب ما شيدوه من أبنية فارهة، وما تمتعوا به من قوة وصحة، وما تفتقت عنه أذهانهم من أفكار تضمن لهم بقاء الماء طوال العام، بتخزينه، على غير ما كان الناس قبلهم أو حولهم عليه من عناء التنقل من مكان إلى مكان هرباً من الجدب والتصحر، فقد قاموا ببناء خزنات كبيرة يخزنون فيها الماء طوال العام، لقد ظنوا أنهم بذلك بعيدون عن الهلاك، فتعمقت في نفوسهم المادية البحتة، التي لا تؤمن بشيء سوى ما تراه، لقد كانوا يعبدون الأصنام؛ فأسهمت تلك المادية في استحكام عنادهم، حين بعث فيهم هود -عليه السلام- هادياً ونذيراً.التوحيد والتقوى من ركائز دعوة هود
لقد كانت دعوته -عليه السلام- تتمركز على ثلاث ركائز:الركيزة الأولى: التوحيد
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ} (هود: 50).الركيزة الثانية: تحقيق التقوى
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)} (الشعراء: 123- 126)، ذلك أنه عاب عليهم الإسراف في العبث واللهو {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} (الشعراء: 128)، والريع هو المكان المرتفع، ربما جبل أو نحوه، فكانوا يشيدون أبنية لا لشيء إلا للعبث وهو اللهو واللعب الذي لا فائدة منه، ثم قال {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (الشعراء: 129)، أي خزانات ماء كبيرة يخزنون فيها الماء على قول أكثر المفسرين، ولم تكن علتهم في تخزينهم الماء، لكن العلة أنهم يفعلون ذلك بقصد الخلود أي البقاء الطويل على الأرض، لكأنهم حين أفلحوا في وجود وسيلة لتخزين الماء، قد وهموا بأن ذلك سيكون سببًا في استعصائهم على الموت، وهم أهل صحراء وجدب بحسب الأصل، وهذا هو العيب الثاني الذي عابه عليهم هود -عليه السلام-، بعد الإسراف. فأراد -عليه السلام- أن يربط عملهم بالله، وأن يبين لهم أن هلاكهم أو بقاءهم إنما هو بيد الله لا بالسبب المادي الذي أخذوا به، ثم إنه عاب عليهم ثالثاً أنهم يعاقبون إذا عاقبوا على خطأ ما بشدة مفرطة وعنف كبير، مما يدل على أن الرحمة قد نزعت من قلوبهم قال: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء: 130).الركيزة الثالثة الاستغفار
كان لب رسالة هود -عليه السلام- ومعجزته، أنه وعد قومه على الاستغفار بمضاعفة ما هم فيه من نعيم، فقد قال لهم ما ذكره الله -تعالى-: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: 52)، فيالها من دعوة بالغة الحكمة والعمق! إذ نفذ بهذا الوعد الفذ إلى لب عللهم، فأراد أن يقيمهم على طريق الهداية، دون أن يحرمهم شيئاً من متعهم، بل إنه يعدهم إذا هم أجابوه وحققوا المطلوب من التوحيد والتقوى والتوبة، فإن هذه النعم التي يرفلون فيها سوف تتضاعف.فأما عاد فاستكبروا
فلم يكن الأمر سهلاً مع قوم عاد، غلاظ القلوب، لقد أفرطوا في الكبر وأسهبوا في الحمق، فبينما كان المنطق المادي العقلاني المجرد عن أي إيمان يقول: لم لا نجرب، حين قدَّم لهم هود -عليه السلام- ذلك العرض المغري بمضاعفة النعيم الذي هم فيه إذا استغفروا وتابوا؟ فقد وعدهم على كلمات قليلات يقولونها بالمزيد من القوة، والمزيد من الرزق والخير، فيالها من وسيلة سهلة للتحقق من صدقه -عليه السلام- لو أنهم أنصفوا أنفسهم! لكنهم لم يفعلوا {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (هود: 53)، فعند ذلك تحقق كفرهم، ولم يعد من أمل في ثنيهم عن الكبر والعناد؛ فلذلك نزل بهم العذاب قال -تعالى-: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} (الحاقة: 6 - 8).دروس باقيات
هلكت عاد وخلفت لنا دروسًا لابد ألا نغفل عنها، ولذلك أثبتها القرآن، وإن من أهم تلك الدروس:- أولاً: وجوب صبر الداعية وشجاعته في تبليغ دعوته.
- ثانياً: العلم بأن الاستغفار هو سبيل المحافظة على النعم وزيادتها.
- ثالثاً: العلم بأن الحضارات التي تنفصل عن القيم الإلهية تكون معرضة للفناء بقدر طغيانها..
- رابعاً: العلم بأن الدين لا يتعارض مع الدنيا إلا حين يطغى الإنسان ويتجاوز حده في الكفر والفساد، فعند ذلك يحصل التصادم والصراع.
- خامسًا: العلم كذلك بأن الريح جند من جند الله، أهلك الله بها أقوامًا سابقين كانوا أشد خلق الله على الأرض؛ ولذلك جاء في الصحيحين أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم الريح والغيم عُرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا مطرت، سر به وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته فقال: «إني خشيت أن يكون عذاباً سُلط على أمتي».
لاتوجد تعليقات