رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد 15 أكتوبر، 2024 0 تعليق

دروس من قصص القرآن الكريم – قصة نوح عليه السلا م

  • ظل نوح عليه السلام يدعو إلى الله صابرًا محتسبًا تسعمائة وخمسين عاماً لذلك فهو بحق أول أولي العزم من الرسل
  • الحق لا يُعرف بكثرة الأتباع ولا بقلتهم وإنما يُعرف الحق بنفسه ويعرف بالأدلة
  • الغلو في الصالحين كان وما يزال هو أوسع أبواب الشرك بالله
 

إن من أعظم ما جاء في القرآن الكريم من قصص، ما كان من قصة نوح -عليه السلام-، فقد ذُكرت قصته في إحدى عشرة سورة، في كل سورة منها ذكر جزء من المسيرة الدعوية لنوح -عليه السلام-، فهي مسيرة ثرية زاخرة بالأحداث والمواعظ والعبر؛ لأنها أطول فترة قضاها رسول في دعوة قومه، قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} (العنكبوت: 14)، فكان هذا هو عمر دعوته في قومه قبل الطوفان على الراجح من أقوال العلماء، فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «بعث الله نوحا وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشو».

التماثيل بريد الكفر

        لقد كان سبب بعثة نوح -عليه السلام-، أن الناس كانوا بين آدم ونوح -عليهما السلام- على التوحيد، ولكن قبل بعثة نوح انحرف الناس عن ذلك وعبدوا تماثيلَ لرجالٍ كانوا فيهم صالحين قال -تعالى-: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)} (نوح: 21- 22)، أي أغروا الناس بأذية نوح أبلغ أذية وأشدها فالكُبَّارُ هو ما كان أكبر من الكبير، فقد تمادوا في مكرهم به، وكانت الأجيال يوصي بعضهم بعضاً بالكفر، الآباء يوصون أبناءهم لا تتبعوا نوحاً فإنه كاذب ومجنون، {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 23). روى الطبري بسنده إلى عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: «هذه أصنام كانت تُعبد في زمان نوح»، وبسنده إلى محمد بن قيس، -وهو تابعي ثقة- قال: «كانوا قومًا صالحين من بنى آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر فعبدوهم»، فكانت هذه التماثيل الخمسة (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر) أسماءً لرجال صالحين بين آدم ونوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى أتباعهم ومريديهم أن لو صنعوا لهم تماثيل فتكون عندهم، تذكرهم بهم، ومن باب مزيد التلبيس أوهمهم أنهم إذا رأوها فإن ذلك سيكون أنشط لهم على عبادة الله!، فلما فنى هذا الجيل، الذي صنع تلك التماثيل لذلك الغرض وجاء آخرون، نُسِيَ الغرض وبيقت التماثيل، فدب إبليس دبيبه فأوحى لأوليائه من البشر: إنما كان من قبلكم يعبدونهم وبهم كانوا يُسقون المطر، فعبدوهم. لذلك فبعث الله نوحاً ليرُدَّ الناس إلى دين الله.

طعنات الأقربين

        لقد بلغ تكذيب الناس لنوح -عليه السلام- مبلغه في الأثر النفسي على نوح -عليه السلام-، حين كان أول الكافرين به، هم ناس من بيته، فهذه زوجه التي من المفترض أن تكون هي موضع السكن والطمأنينة وتخفيف أعباء الدعوة عنه، إذا بها بدلا من ذلك تكون أحد أهم الأعباء التي أثقلت كاهله وزادت من معاناته، قال -تعالى-: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثلاً للذين كَفَروا امرأةَ نُوحٍ وامرأةَ لُوطٍ كانتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادنا صالحْينِ فخانتاهما} (التحريم:10)، وإن خيانة امرأة نوح -عليه السلام- له تمثلت في أنها كانت تقول للناس عنه مجنونا، وإذا آمن أحدٌ بدعوته أخبرت قومها به ليعذبوه ويضطهدوه، (الطبري، 23/498).

نشوء ابنه على الكفر

        ثم لا شك بعد ذلك أن كفرها به كان له أثر في نشوء واحد من أبنائه على الكفر، بل وإصراره على ذلك حتى وهو في أحلك الظروف حين كان مشرفاً على الغرق، فياله من ابتلاء عظيم! أن يصاب المرء في أعز الناس لديه، فيكون هو أول المكذبين له، وأشدهم زهداً فيه وكفراً به، يمد لهم يده بالنجاة في محنتهم فيُفضِّلُون الهلاك على صحبته، إن في ذلك الجو المملوء بالعذاب من الداخل والخارج وفي كل الأوقات والأماكن، ظل نوح -عليه السلام- يدعو إلى الله صابراً محتسباً تسعمائة وخمسين عاماً، لذلك فهو بحق أول أولي العزم من الرسل، يقول أهل التفسير مر عليه سبعة أجيال، كلهم على الكفر يوصي به السابق منهم اللاحق؛ لذلك شكا نوح إلى ربه ودعاه فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا}، (نوح: 26-27).

الحصاد المر

       لم تسفر دعوة نوح -عليه السلام- لقومه وأهله، كل هذه السنين سوى عن عدد قليل من المؤمنين، قيل كانوا ثمانين رجلا وامرأة، منهم ثلاثة من أبنائه وهم يافث، وسام، وحام، أما كنعان وأمه فقد هلكا مع الهالكين، قال القرطبي -رحمه الله في تفسيره-: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) (هود: 42)، قيل كان كافراً واسمه كنعان وقيل يام، وقد كان نوح يصنع السفينة بأمر الله -تعالى- فيمر به قومه فيسخرون منه؛ لأنهم لم يروا شيئاً كهذا الذي يصنعه من قبل، قال -تعالى-: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)} (هود: 38-41).  

دروس مستفادة

إن من أهم الدروس في قصة نوح -عليه السلام- أن نتعلم: تحقيق الأهداف يحتاج إلى صبر ومثابرة، وإن أعظم ما يعتمد عليه أصحاب الهمم العالية في تحقيق الأهداف هو التوكل على الله وطلب معيته وعونه، فلا نجاح إلا بمعونة ولا معونة إلا بدعاء. كذلك نتعلم أن الحق لا يُعرف بكثرة الأتباع، ولا بقلتهم، وإنما يُعرف الحق بنفسه، ويعرف بالأدلة وليس بالرجال. كذلك نتعلم الحذر من الغلو في الصالحين، فذلك هو أوسع أبواب الشرك بالله، كان وما يزال، روى مسلم في صحيحه: عن أمنا عائشة -رضي الله عنها-، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (التوبة:33) أن ذلك تاما قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحا طيبة، فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم»، وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة» وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية. ونتعلم أيضًا أن الهداية من الله -تعالى-، لها أسباب وعوامل من أهمها على الإطلاق التربية، والبيئة المحيطة، فإذا جاءت التربية من أحد الأبوين فاسدة، صار الابن كما وصف الله -تعالى-: {عملٌ غير صالح} (هود: 46)، فهو عند ذلك لا يقبل الهداية ولو كانت بين عينيه، كما كان شأن كنعان الهالك؛ لذا فإنه لا يكفي لصلاح الابن أن يكون أحد الأبوين صالحا، بل يجب أن يكون كلا الأبوين صالحاً وكذلك البيئة المحيطة أيضاً. نسأل الله -تعالى- أن يربي لنا أبناءنا وأن يرزقنا وإياهم الهداية والرشاد.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك