رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد 10 سبتمبر، 2024 0 تعليق

دروس من قصص القرآن الكريم – قصة نبأ ابني آدم عليه السلام

  • الفعل السيء حين ينتشر ويُقتدى به فإنه يعود على الفاعل الأول له بالسيئات مثله في ذلك مثل من يعمل شيئاً حسناً فيُقتدي به فيه فإن صاحب العمل الأول يجني من الحسنات بقدر من يعمل بذلك العمل كلما عُمل به
  • الطمع وعدم الرضا بالمقسوم هو أساس كل شر فهو الذي يدفع إلى التعدي بأنواعه وإلى الفساد والظلم
 

ليس كل القصص في القرآن يتعلق بجهاد المرسلين وعناد الكافرين، ولكن بعض ذلك القصص قد تكون له علاقة بالتشريع، وبيان أسبابه، فقد كانت جريمة قتل كبرى قد ارتكبت في المدينة النبوية، ارتكبها الوفد العرنيون الذين جاؤوا فتظاهروا بالإسلام، ثم سطوا على إبل الصدقة فانتهبوها وقتلوا رعاتها وسملوا أعينهم وارتدوا عن الإسلام، فكان فعلهم له وقع سيء بما فيه من القسوة والخيانة والغدر مع القتل والسرقة؛ مما استلزم -من باب المناسبة عند تشريع العقوبة الخاصة بهم- أن يُسبق ذلك بذكر شيء من تاريخ جريمة القتل؛ من حيث بيان أول من سنها للبشر، وهو ابن آدم الأول، وأقبح وأفظع من ارتكبها وهم بنو إسرائيل، ثم ذكر عقوبة قطع الطريق فقال الله -تعالى-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة:33- 34). 

        لقد سميت سورة المائدة التي نزلت فيها قصة ابني آدم، بسورة العقود، وهي من آخر ما نزل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، فقد جاء في المسند بإسناد صحيح إلى جبير بن نفير، قال دخلتُ على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: قلت: نعم. قالت: «فإنها آخر سورة نزلت؛ فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه».

أحكام متعددة

        وقد وردت في السورة أحكام تتعلق بالمأكل والمشرب، والدماء والأموال والحدود، والأيمان، والصيد، ومعاملة الأعداء، والوضوء والتيمم، والوصية، والموقف من أهل الكتاب من حيث التعامل والعقيدة؛ ولذلك ابتدأت السورة بقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وهي عقود الإيمان، فكل ما شرعه الله لنا بأمر أو نهي من فعل أو ترك، فإنه عقد يجب الوفاء به، روى ابن جرير بسنده إلى عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى- {أوفوا بالعقود}، يعني: ما أحل الله وما حرم، وما فرض، وما حد في القرآن كله، فلا تغدروا ولا تنكثوا.

القصة والتشريع

        بينما هي الآيات تتوالى في السورة الكريمة تبين الأحكام، وتشرع الشرائع، وتحذر من سلوك سبيل أهل الكتاب في تبديلهم لشرعهم وتغييرهم لدينهم، وبيان ما هم عليه من ضلال، إذا بالحق -سبحانه- يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، (المائدة: 27). ولم تكن هذه النقلة من سياق التشريع والأحكام إلى سياق القصص، إلا لأن لهذا القصص وظيفة في بيان ضرورة تحقيق تلك الشرائع والوصية بعناية النفوس بها وبتطبيقها، فقد جاءت قصة ابني آدم لتحذر من التحايل على الشرائع، وتسويف أحكام الله والتباطؤ عن تطبيقها، تحت سطوة الشهوة، أو الطمع؛ فإن استرسال الإنسان مع شهواته، يؤدي به إلى الهلاك، وإلى الظلم والخسران والندم.

الخبر اليقين

        لقد قال الله -تعالى-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}، قال {بالحق}؛ لأن بعض ما جاء في كتب أهل الكتاب وما تداوله القُصَّاصُ من شأن ابني آدم لا صحة له؛ فلذلك أعرض القرآن عن ذكرها، ليس فقط لكونها غير صحيحة؛ إذ في الإمكان تصحيحها، لكن لما كان المنهج القرآني في شأن القصص أنه لا يعرض التفاصيل، ولا يحتفي بذكر الأسماء غالباً، فإنَّ من أهداف ذلك، تركيز العناية بالأهداف الرئيسة لذلك القصص؛ لأن ذكر التفاصيل غالباً لا يفيد في شيء؛ فلذلك لم يرد في القرآن ولا في السنة اسم ابني آدم الذين ذُكر شأنهما في تلك الآيات، لكن الثابت قطعاً أن القاتل في هذه القصة هو ابنُ آدم الأول، فهو أول مولود ولد لآدم -عليه السلام-، وإنه قَتَلَ أخاه الذي ولد في البطن الثانية بعده، وقد جاء في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ما يؤيد ذلك، ففي الحديث المتفق عليه عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله  - صلى الله عليه وسلم-: «لا تُقتلُ نفسٌ ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل».

الكفل العظيم

        في ذلك الحديث النبوي السابق بيان مهم: بأن الفعل السيء حين ينتشر ويُقتدى به، فإنه يعود على الفاعل الأول له بالسيئات، مثله في ذلك مثل من يعمل شيئاً حسناً فيُقتدي به فيه، فإن صاحب العمل الأول يجني من الحسنات بقدر من يعمل بذلك العمل كلما عُمل به؛ فإن ابن آدم الأول حين قتل أخاه فجاء بعده من فعل مثل فعله فإنه يكون قد تسبب في انتشار ذلك الذنب، ومن ثم فإنه يلحقه إثم بكل جريمة قتل ترتكب على الأرض بعده؛ لأنها وقعت بسببه، وبدلالته، وقد قال الله -تعالى بعد ذلك مؤيداً لذلك المعنى-: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، (المائدة: 32)، فمن أجل جريرة ذلك القاتل الأول ولأن من جاء بعده اقتدى به في القتل ففعل مثل فعله، غُلِّظ على بني إسرائيل حكم القتل بغير حق، فمن فعل ذلك منهم فإن قتله لواحد يعدل في الجرم قتل الناس جميعاً، وكذلك من استبقى نفساً معصومة وحافظ عليها من الهلاك فهو في الأجر كمن استحيا الناس جميعاً، فإن الحسنة تتضاعف والسيئة تتضاعف.

الانتقال السريع

         لقد انتقلت بنا الآيات هنا نقلة واسعة من الحديث عن ابني آدم إلى الحديث عن بني إسرائيل، مع أن الذي بين هؤلاء وهؤلاء زمن طويل، كانت فيه أمم كثيرة، وكان القتل فيهم أيضاً محرماً، لكن جاء ذلك الانتقال من ذكر خبر ابني آدم إلى ذكر حال بني إسرائيل؛ لأن هؤلاء الأخيرين هم شر من ارتكب ذلك الجرم، كونهم قتلة الأنبياء، غلاظ القلوب، كثيرٌ فيهم الطغيانُ وسفكُ دماء الأبرياء، فناسب ذلك ذكرهم بعد ابني آدم وتذكيرهم بما أُخذ وأُكد وغُلظ عليهم في شأن الدماء.

التقوى أهم الدروس

         إن من أهم الدروس المستفادة من قصة ابني آدم في سورة المائدة، أن الوقوف عند حدود الله فيه السلامة والخير، وأن قبول الله لطاعاتنا لابد معه من التقوى، فمن فعل الطاعة ليتوصل بها إلى معصية فليس من المتقين، ولا يتقبل الله طاعته أيا كانت تلك الطاعة.

الطمع أساس كل شر

        من الدروس كذلك: أن الطمع وعدم الرضا بالمقسوم هو أساس كل شر، فهو الذي يحرك إلى التعدي بكل أنواعه، وإلى الفساد والظلم، بل وهو الذي ينفي العلم من صدور الرجال، فأصحاب المطامع الذين يلهثون خلف شهواتهم وأطماعهم يفقدون من العلم بقدر ما يتملك نفوسهم من الحرص والطمع، روى الدارمي بإسناد صحيح أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ لِعبداللَّهِ بْنِ سَلامٍ - رضي الله عنه -: مَنْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ؟ قَالَ «الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ»، قَالَ: فَمَا يَنْفِي الْعِلْمَ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ؟ قَالَ: «الطَّمَعُ».

ليس كل الندم يفيد

         من الدروس المهمة أيضًا أن الندم بعد المعصية ليس كله ينفع، فما ينفع منه إنما الذي يكون عن توبة، وأما الندم لانكشاف الجرم، أو لعدم القدرة على إخفائه أو نحو ذلك فإنه لا يفيد، روى ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَكَثَ يَحْمِلُ أَخَاهُ فِي جِرَابٍ عَلَى رَقَبَتِهِ سَنَةً، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ -عزوجل- الْغُرَابَيْنِ، فَرَآهُمَا يَبْحَثَانِ, فَقَالَ: أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ؟ فَدَفَنَ أَخَاهُ»، فهو لم يندم لفعل القتل وإنما لعدم القدرة على الاهتداء لما اهتدى إليه الغراب، وإنما بعث الله -تعالى- له غراباً دون غيره من سائر الطيور والحيوانات، لأن الغراب أحد الفواسق فهو طائر مفسد، فكان من الملائم أن يقتدي فاسق بفاسق.  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك