رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عبد المنعم الشحات 8 مارس، 2015 0 تعليق

دروس من «المحنة السلفية الأولى» السلفيون والدولة (2)

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.

تمهيد:

نكمل الحديث عن موقف السلفيين من دولهم، وحرصهم على استقرارها من خلال الحديث عن المحنة السلفية الأولى (محنة الإمام أحمد) -رحمه الله-؛ إذ هي السابقة الأولى في تاريخ الإسلام التي تتبنى فيها الدولة وأجهزتها مذهبا مخالفًا لأهل السنة فنقول:

الفصل الثالث: الإمام (أحمد) و(المعتصم) العباسي:

     هذا الفصل هو الأشد والأروع في فصول هذه المحنة العظمى، وتجلى فيه صمود الإمام (أحمد)؛ حيث أصبح وحده في الميدان بعد أن مات (محمد بن نوح) تحت وطأة الحبس والتنكيل، ورغم أن الخليفة (المعتصم) لم يكن مِن أهل الفكرة ولا يعتقدها في الأساس، ولكنه خاض في الفتنة وانغمر فيها؛ لأن أخاه (المأمون) قد أوصاه بذلك، فحمله حبه لأخيه (المأمون)؛ لأن يعمل بوصيته، بل يزيد عليها، فكان أول قرار أخذه (المعتصم) هو رد الإمام (أحمد) إلى بغداد وسجنه هناك في سجن ضيق مظلم، والقيود في يديه ورجليه حتى إنه أصيب بمرض شديد في شهر رمضان، فنقلوه إلى سجن أوسع مع عموم الناس، ومكث في هذا السجن ثلاثين شهرًا!

     وفي السجن أخذ رجال الاعتزال ورؤوس الفتنة يأتونه واحدًا تلو الآخر ليناظروه في خلق القرآن، وهو يناظرهم وتعلو حجته حججَهم، وكلما غلبهم في المناظرة اشتدوا عليه وضيقوا عليه، وزادوا في قيوده، وبعد أيام عدة وكانوا في شهر رمضان بدأت فصول المناظرة العلنية بحضور الخليفة (المعتصم) نفسه.

     ولنا أن نتخيل هذا المشهد (المهول) الذي حضره الإمام (أحمد) وحده، وكان في مجلس الخليفة (المعتصم)، وفيه كل رجال البدعة والوزراء، والقادة، والحجَّاب، والسيافون، والجلادون، وكان الذي بدأ معه الكلام هو (المعتصم) نفسه، وقد حاول استمالته وترغيبه في أول الأمر، ثم أمر علماء البدعة بمناظرته، فهزمهم الإمام كلهم، وهو يحتج عليهم بالآيات والأحاديث والآثار، وهم يحتجون بكلام الفلاسفة، مثل: العرض، والجوهر، والشيء، والوجود، والقدم؛ لذلك فقد علت حجتُه حجتَهم، والإمام يقول: «أعطوني شيئًا مِن كتاب الله وسنة رسوله»، وكان قائد الشرطة عبد الرحمن بن إسحاق -وهو بالمناسبة ابن إسحاق بن إبراهيم القائد السابق- ممن يدافع عن الإمام أحمد، ويقول للخليفة المعتصم: «يا أمير المؤمنين، أعرفه منذ ثلاثين سنة، وإنه ليرى طاعتك والحج والجهاد معك، وإنه لعالم، وإنه لفقيه»، ولكن في المقابل كان (أحمد بن أبي دؤاد) أشد الناس عليه، ويحرض (المعتصم) عليه بشدة ليقتله ويقسِم له أنه ضال وكافر ومبتدع!

     واستمرت هذه المناظرة العلنية ثلاثة أيام، وكانوا في شهر رمضان، والإمام ثابت لا يتزعزع وخصومه مِن حوله تتساقط شبههم وبدعهم، حتى كان اليوم الرابع وكان (المعتصم) قد ضجر مِن طول المناظرة، وأغراه قاضي المحنة (أحمد بن أبي دؤاد)، حتى وصل التهديد للضرب والجلد، وأُحضرت الخشبة والسياط، وشد (أحمد) على العقابين -وهما خشبتان يشد الرجل بينهما للجلد- فخلعت يداه وهو صامد، وعندها أخذت (المعتصم) شفقة على الإمام، وأعجب بثباته وصلابته، ولكن (أحمد بن أبي دؤاد) أغراه وقال له: «يا أمير المؤمنين، تتركه فيُقال: غلب خليفتين!»؛ فعمي (المعتصم) لكلمته الشريرة، وأمر بالإمام فأخذ الجلادون في ضربه بالسياط، يتناوبون على ضربه؛ هذا يضربه سوطين، والآخر ثلاثة، وهكذا، حتى إذا بلغ سبعة عشر سوطًا قام إليه المعتصم، وقال له: «يا أحمد، علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق!»، وجعل عجيف أحد قادة الأتراك العسكريين في جيش (المعتصم) ينخسه بقائمة سيفه، ويقول: «أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟!»، وجعل بعضهم يقول: «ويلك إمامك الخليفة على رأسك قائم»، وقال بعضهم: «يا أمير المؤمنين دمه في عنقي، اقتله»، وجعلوا يقولون: «يا أمير المؤمنين أنت صائم، وأنت في الشمس قائم»، و(المعتصم) يقول: «ويحك يا أحمد، ما تقول؟!

      فيجيب الإمام بكل صمود وثبات: «أعطوني شيئًا مِن كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به»، فيأمر (المعتصم) بمواصلة الضرب، ثم قال له (المعتصم) مرة أخرى: أجبني إلى شيء فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ومع ذلك الإمام صامد، فأخذوا في ضربه حتى أغمي عليه مِن شدة الضرب، وقد تمزق ظهره من لهيب السياط!

     وبعد هذا الثبات العجيب الذي تعجز عن مثله الجبال الراسيات، أمر (المعتصم) بإطلاق سراحه، ولكن بعد أن فعل شيئًا في منتهى العجب والغرابة، وهو قيامه بإحضار أقارب الإمام (أحمد) وأهله وجيرانه، وأشهدهم على أنه سليم البدن، وذلك خوفـًا من ثورة الناس عليه إن حصل للإمام مكروه، هذا على الرغم من قوة (المعتصم) وشجاعته وسلطته، ولكن قوة الحق، وسلطة الصمود، وشجاعة الثبات الذي عليه الإمام (أحمد) كانت أكبر مِن ذلك كله! وخرج الإمام (أحمد) وعاد إلى بيته بعد 28 شهرًا مِن الحبس والضرب من سنة 218هـ حتى سنة 221هـ.

     و(المعتصم) وإن كان هو الذي أقدم على ضرب الإمام (أحمد)؛ إلا أنه لم يكن مثل (المأمون) مقتنعًا أو معتنقًا لهذه البدعة، وكان يود لو أطلق سراح (أحمد) بلا ضرب، ولكن رؤوس الضلالة أوغروا صدره وأشعلوا غضبه حتى أقدم على جناية ضرب الإمام؛ لذلك فلقد جعله الإمام (أحمد) في حلٍ من هذه الجناية؛ وذلك يوم أن جاءه خبر فتح (عمورية) سنة 223هـ.

الفصل الرابع: الإمام (أحمد) و(الواثق) العباسي:

     ظل (أحمد) بعد خروجه مِن سجن (المعتصم) يُعالَج في بيته فترة طويلة مِن آثار الضرب والتعذيب حتى تماثل للشفاء، وأخذ يحضر الجمعة والجماعة، ويحدث الناس، ويفتي حتى مات (المعتصم)، وولي مكانه ابنه (الواثق)، وكان قد تربى في حجر قاضي المحنة (أحمد بن أبي دؤاد) فشربه البدعة منذ صغره؛ فكان (الواثق) مِن أشد الناس وأخبثهم في القول بالبدعة؛ حيث أظهرها بقوة وأجبر الناس عليها، وأطلق يد (أحمد بن أبي دؤاد) فيها، فكان يفرِّق بين الرجل الذي لا يقول ببدعته وبين امرأته، ويأمر المعلِّمين بتعليم الصبيان في المكاتب هذه البدعة الخبيثة، وبلغ الأمر ذروته عندما كان (أحمد بن أبي دؤاد) يمتحن أسرى المسلمين عند الروم، فمن قال ببدعة خلق القرآن افتداه، ومَن امتنع يتركه أسيرًا بيد الروم حتى ضج الناس، وضاقت نفوسهم.

ثم إن (الواثق) أمر بنفي الإمام مِن بغداد، وأرسل إليه يقول: «لا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكنني بأرض ولا مدينة أنا فيها!».

     فخرج الإمام مِن بيته واختبأ بدار أحد تلاميذه أياماً عدة، ثم انتقل إلى موضع آخر فمكث فيه شهوراً عدة حتى هدأ الطلب عليه، ثم تحول إلى مكان آخر، وظل هكذا لا يستطيع أن يخرج إلى صلاة ولا إلى مجلس علم وتحديث حتى هلك (الواثق) العباسي سنة 231هـ؛ فخرج الإمام للناس وجلس للتحدث، وذلك أن (المتوكل) الذي ولي بعد (الواثق) كان على «مذهب أهل السنة»، وقد أمر برفع البدعة وإظهار السنة، وأيضًا لم يَسلم الإمام مِن الفتنة أيام (المتوكل)، ولكنها كانت فتنة بالسراء ليس بالضراء؛ ذلك أن (المتوكل) قد أفاض عليه بالأموال والعطايا الجزيلة، وحاول استمالته ليسكن مدينة سامراء ويترك بغداد، وأن يتولى تعليم ولده (المعتز) وتأديبه، ولكن الإمام رفض ذلك بشدة، وعانى بسبب هذا الرفض معاناة شديدة.

دروس (المحنة السلفية الأولى):

بعد أن سقنا ملخص المحنة نعرِّج على أهم دروسها؛ لا سيما فيما يتعلق بأمر «السلفية والدولة»، وهي كما أسلفنا:

1- تبني الدولة لمذهب باطل لا يجعله حقـًّا، وهو يعطي الرخصة لآحاد الناس في المداراة متى أُكرِه على هذا، ولكن العلماء عليهم بيان الحق.

2- عدم التشوف إلى تكفير المخالِف لاسيما من الحكام «وإن آذى وظلم»؛ لما في ذلك مِن مراعاةٍ لحق «لا إله إلا الله»، وتطبيقًا للقواعد الشرعية في العذر بالتأويل.

3- عدم الدعوة إلى إسقاط الدولة «بزعم ظلمها»، بل نهي مَن أراد ذلك عنه.

4- عدم ترك الدعوة إلى الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

5- وجوب مراعاة المصالح والمفاسد أيضًا حال تلك الدعوة، ومنه استعمال الرفق في خطاب الحكام أكثر مِن غيرهم دون إخلال بأصل قضية بيان الحق.

وهذه أمور واضحة مِن سياق القصة، ولكن لا بأس بأن نزيد كلاً منها بيانًا على النحو الآتي:

1- تبنى الدولة لمذهب باطل لا يجعله حقـًّا، وهو يعطي الرخصة لآحاد الناس في المداراة متى أُكرِه على هذا، ولكن العلماء عليهم بيان الحق: والقصة مِن أولها إلى آخرها دليل على هذا، ومِن النقول الخاصة بعدم جواز التقية لأهل العلم:

- قال أبو العباس الرقي -وكان من حفاظ أهل الحديث-: «إنهم دخلوا على أحمد بالرقة وهو محبوس، فجعلوا يذكرونه ما يروى في التقية مِن الأحاديث، فقال أحمد: فكيف تصنعون بحديث خباب: «قَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ بِنِصْفَيْنِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِه» (رواه أحمد والبخاري)، قال: فيئسنا منه!».

- قال المروذي في محنة أحمد بن حنبل -وهو بين الهنبازين-: «يا أستاذ، قال الله -تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } (النساء:29).

فقال أحمد: يا مروذي، اخرج انظر أي شيء ترى؟!

قال: فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقًا من الناس، لا يحصي عددهم إلا الله، والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعتهم.

فقال لهم المروذي: أي شيء تعملون؟!

قالوا: ننظر ما يقول أحمد، فنكتبه.

فقال المروذي: مكانكم.

فدخل إلى أحمد بن حنبل وهو قائم بين الهنبازين، فقال: لقد رأيت قومًا بأيديهم الصحف والأقلام؛ ينتظرون ما تقول فيكتبونه.

فقال: يا مروذي، أضل هؤلاء كلهم؟! أقتل نفسي وألا أضل هؤلاء». وللحديث بقية إن شاء الله

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك