رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عبد المنعم الشحات 16 مارس، 2015 0 تعليق

دروس من «المحنة السلفية الأولى» السلفيون والدولة (3)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

نكمل الحديث عن الدروس المستفادة من (المحنة السلفية الأولى) محنة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- بعد أن سقنا ملخص المحنة ولاسيما فيما يتعلق بأمر (السلفية والدولة)، فنقول:

2- عدم التشوف إلى تكفير المخالف ولا سيما من الحكام «وإن آذى وظلم»؛ لما في ذلك مراعاة لحق (لا إله إلا الله)، وتطبيقًا للقواعد الشرعية في العذر بالتأويل: وهي مسألة واضحة مِن سلوك الإمام مع مَن امتحنوه، ومع هذا فقد نقل عنه في هذه المسألة أقوال أُخر، من المفيد أن نتعرف على توجيه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لها.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

     «فإن الإمام أحمد -مثلاً- قد باشر (الجهمية)‏ الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات -الذين لم يوافقوهم على التجهم- بالضرب والحبس والقتل، والعزل على الولايات وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو؛ بحيث كان كثير من أولي الأمر؛ إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل مَن لم يكن جهميًا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن! يحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية، ولا يفتدونه من عدو، ولا يعطونه شيئًا مِن بيت المال، ولا يقبلون له شهادة، ولا فتيا ولا رواية،‏ ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة، والافتكاك من الأسر وغير ذلك‏؛ فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومَن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعيًا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه أوحبسوه!‏

ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم مِن مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب‏.‏

      ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومِن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفِّروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون‏:‏ «القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة»‏.‏

      وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفـَّر به قومًا معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال‏:‏ مَن كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومَن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم‏‏» (انتهى كلام شيخ الإسلام).

ومما يُروى مِن روائع شفقة الإمام بمعذبيه:

قال أبو علي الحسين بن عبد الله الخرقي -وقد رأى أحمد بن حنبل- قال: «بت مع أحمد بن حنبل ليلة، فلم أره ينام إلا يبكي، إلى أن أصبح، فقلت: يا أبا عبد الله، كثر بكاؤك الليلة، فما السبب؟!

      قال: ذكرتُ ضرب المعتصم إياي، ومر بي في الدرس: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى:40)، فسجدتُ، وأحللته من ضربي، في السجود!».

3- عدم الدعوة إلى إسقاط الدولة بزعم ظلمها، بل نَهى مَن أراد ذلك عنه: قال حنبل: «فلما أظهر الواثق هذه المقالة، وضرب عليها وحبس، جاء نفر إلى أبي عبد الله من فقهاء أهل بغداد، فيهم: بكر بن عبد الله، وإبراهيم ابن علي المطبخي، وفضل بن عاصم، وغيرهم، فأتوا أبا عبد الله، وسألوا أن يدخلوا عليه، فاستأذنت لهم، فأذن لهم، فدخلوا عليه.

      فقالوا له: يا أبا عبد الله، هيا، إن الأمر فشا وتفاقم، وهذا الرجل يفعل ويفعل، وقد أظهر ما أظهر، ونحن نخافه على أكثر مِن هذا! وذكروا له أن ابن أبي دؤاد مضى على أن يأمر بالمعلمين بتعليم الصبيان في الكتاب مع القرآن: القرآن كذا، وكذا...

فقال لهم أبو عبد الله: وماذا تريدون؟!

قالوا: أتيناك نشاورك فيما نريد.

قال: فما تريدون؟!

قالوا: لا نرضى بإمرته ولا بسلطانه.

      فناظرهم أبو عبد الله ساعة، حتى قال لهم «وأنا حاضرهم»: أرأيتم إن لم يتم لكم هذا الأمر، أليس قد صرتم من ذلك إلى المكروه؟! عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا، واصبروا حتى يستريح برٌّ، ويُستراح مِن فاجر.

ودار بينهم في ذلك كلام كثير لم أحفظه، واحتج عليهم أبو عبد الله بهذا.

فقال له بعضهم: إنا نخاف على أولادنا إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره، ويمحى الإسلام ويدرس!

فقال أبو عبد الله: كلا، إن الله -عز وجل- ناصر دينه، وإن هذا الأمر له رب ينصره، وإن الإسلام عزيز منيع.

فخرجوا مِن عند أبي عبد الله، ولم يجبهم إلى شيء مما عزموا عليه أكثر من النهي عن ذلك، والاحتجاج عليهم بالسمع والطاعة، حتى يفرج الله عن الأمة.

      فلم يقبلوا منه، فلما خرجوا، قال لي بعضهم: امض معنا إلى منزل فلان -رجل سموه- حتى نوعده لأمر نريده، فذكرت ذلك لأبي عبد الله، فقال لي أبي: لا تذهب، واعتل عليهم؛ لا آمن أن يغمسوك معهم؛ فيكون لأبي عبد الله في ذلك ذكر، فاعتللت عليهم، ولم أمضِ معهم، فلما انصرفوا، دخلت أنا وأبي على أبي عبد الله، فقال أبو عبد الله لأبي: يا أبا يوسف: هؤلاء قوم قد أشربت قلوبهم ما يخرج منها فيما أحسب، فنسأل الله السلامة، ما لنا ولهذه الأمة، وما أحب لأحد أن يفعل هذا.

فقلت له: يا أبا عبد الله، وهذا عندك صواب؟!

قال: لا، هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر.

     ثم قال أبو عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن وليت أمره فاصبر». وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: كذا، وذكر أبوعبد الله كلامًا لم أحفظه.

قال أبو علي حنبل: بل، فمضى القوم، فكان من أمرهم أنهم لم يُحمَدوا، ولم ينالوا ما أرادوا، اختفوا من السلطان، وهربوا، وأُخِذ بعضهم فحبس، ومات في الحبس!.

4- عدم ترك الدعوة إلى الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً: ومِن اللطائف التي تروى في ذلك قصة تتلمذ الإمام (بقي بن مخلدٍ) -رحمه الله- على يد الامام (أحمد) -رحمه الله- وهو محدد الإقامة.

      قال الذهبي -رحمه الله-: «ورحل الإمام بقي بن مخلد -رحمه الله- على قدميه من الأندلس إلى بغداد لأجل ملاقاة الإمام أحمد ابن حنبل -رحمه الله- وطلب العلم على يديه، قال بقيٌ: فلما اقتربت من بغداد وصل إليَّ خبر محنة الإمام أحمد وعلمت أنه ممنوع من الاجتماع بالناس وتدريسهم؛ فاغتممت لذلك كثيرًا، فلما وصلت إلى بغداد وضعت متاعي في غرفةٍ ثم خرجت أبحث عن منزل أحمد بن حنبل فدُللت عليه فطرقت الباب ففتح لي الباب الإمام أحمد نفسه، فقلت: يا أبا عبد الله، رجل غريب الدار وطالبُ حديث ومقيد سُنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك؛ فقال لي: ادخل ولا يراك أحد، فسألني وقال: أنا ممتَحنٌ وممنوع من التدريس والتعليم، فقلت له: أنا رجلٌ غريب فإن أذنت لي آتيك كل يوم في لباس الفقراء والشحاذين وأقف عند دارك وأسأل الصدقة والمساعدة فتخرج إليَّ وتحدثني ولو بحديث واحد، فقال بقي: فكنت آتي كل يوم فأقف على الباب وأقول: الأجر رحمكم الله، فكان أحمد يخرج إليَّ ويُدخلني الممر ويحدثني بالحديثين والثلاثة وأكثر حتى اجتمع لي قُرابة ثلاثمائة حديث، ثم إن الله رفع الكربة عن الإمام أحمد وانتشر ذكره، فكنتُ إذا أتيت الإمام أحمد بعد ذلك وهو في حلقته الكبيرة وحوله طلاب العلم كان يُفسح لي مكانًا ويقربني منه، ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب العلم».

5- وجوب مراعاة المصالح والمفاسد أيضًا حال تلك الدعوة، ومنه استعمال الرفق في خطاب الحكام أكثر من غيرهم دون إخلال بأصل قضية بيان الحق: ومما يروى في ذلك: قال حنبل: «فلما مات المعتصم، وولي ابنه هارون الواثق، أكثر الناس من الأخذ عن الإمام أحمد؛ فشق ذلك على أهل البدع، فكتب الحسن بن علي بن الجعد قاضي بغداد إلى ابن أبي دؤاد أن أحمد قد انبسط في الحديث، فلما بلغ أبا عبد الله، أمسك عن التحديث من نفسه، من غير أن يُمنع».

     ومما يروى في اللين مع السلطان أكثر من غيره: قال صالح بن أحمد: «سمعت أبي يقول: لما أدخلت على المعتصم، قال لي: ادنه، ادنه. فمكثت قليلاً، ثم قلت: تأذن لي في الكلام. فقال: تكلم... وقال حنبل: «قال أبو عبد الله: وكان إذا كلمني ابن أبي دؤاد لم أجبه، ولم ألتفت إلى كلامه، وإذا كلمني أبو إسحاق؛ ألنت له القول والكلام».

خاتمة:

      وبعد عرض هذا السلوك الراقي والفقه العظيم لـ«إمام أهل السنة» في قيامه بالحق، ومراعاته للمصالح والمفاسد في الوقت ذاته، وابتعاده عن الهوى في تكفير المخالفين، بل وصل الأمر إلى الدعاء لهم في الصلاة بالعفو والمغفرة «وفي مراعاة حال مصلحة عموم الخلق في استقرار دولهم وإن كان فيها بدعة وظلم» - قد يُطرح سؤال حول مدى انطباق هذا الفقه على حال المسلمين في «الدولة الحديثة» التي قامت على أسس مخالفة لما قامت عليه «الدولة العباسية» التي تعرضنا لتجربة الإمام «أحمد بن حنبل» معها؟

وهذا ما سنفرد له مقالة أخرى -بإذن الله تعالى-.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك