رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 7 يوليو، 2022 0 تعليق

دروس مستفادة من مدرسة الحج

 

الشيخ محمد بن إبراهيم السبر

تستقبل أمة الإسلام موسمًا عظيمًا بفضائله، جليلاً بفوائده عميقا بآثاره، إنه موسم الحج الذي يؤدي فيه المسلمون ركنا من أركان الإسلام ومبانيه العظام، هذه العبادة الجليلة هي في حقيقتها مدرسة عظيمة تحمل في طياتها الكثير من الدروس والعبر، التي يتربى عليها المسلمون، وفي رحاب مناسكها يتتلمذون، ويتفيؤون معالم قيمها، ويبرزون للعالم أجمع من خلال تجمعهم العالمي ومؤتمرهم السنوي هدايات الإسلام ومحاسنه.

ومهما تتبارَ القرآئح والأفهام حادية أناشيد عظمته، مسطرة دروسه وعبره، فستظل جميعا كأن لم تبرح مكانها، ولم تحرك بنافلة القول لسانها.

(1) الحكمة من بناء البيت العتيق

        إن أول دروس مدرسة الحج يتجلى في قول الله -تعالى-: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(الحج:26)؛ فالحكمة من بناء البيت العتيق إنما هي توحيد الله -تعالى- وإفراده بالعبادة، والحج من خلال مناسكه يعمق قضية التوحيد، ويؤسس العقيدة على الإخلاص لله وحده ونفي الشريك عنه، وفي أول ذكر يلهج به الحاج يرتسم التوحيد على الشفاه، وتعلو به الحناجر؛ ففي التلبية تتجلى هذه المعاني، قال جابر - رضي الله عنه - واصفا حجة النبي صلى الله عليه وسلم -: «فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك»(رواه مسلم)، فمدرسة الحج تعزز جانب العقيدة الصحيحة وتحمي حمى التوحيد؛ حتى لا يقع المسلم في براثن الشرك والوثنية، ويحقق التوحيد الخالص واقعا في قلبه وقالبه، وينبذ الخرافة ويصرف جميع العبادات كلها لله وحده لاشريك له: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}(الحج: 31).

(2) البراءة من المشركين ومخالفتهم

       ومدرسة الحج تبرز أهم قضية من قضايا العقيدة وهي البراءة من المشركين ومخالفتهم؛ قال -تعالى- في سورة براءة: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}(التوبة: 3)، وخلال رحلة حجه -صلى الله عليه وسلم - حرص على مخالفة المشركين؛ فقد لبى بالتوحيد خلافاً لهم في تلبيتهم الشركية، وأفاض من عرفات مخالفاً لقريش حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً لأهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها، ولما كان المشركون يدفعون من المشعر الحرام {مزدلفة} بعد طلوع الشمس، فخالفهم - صلى الله عليه وسلم - فدفع قبل أن تطلع الشمس.

(3) تربية على متابعة الهدي النبوي

        ومدرسة الحج تربية على متابعة الهدي النبوي في مناسك الحج؛ استجابة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم»، فيتربى الحاج على التزام السنة والاهتداء بها في جميع شؤون حياته: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(الأحزاب: 21)، ففي مدرسة الحج يتذوق المسلم لذة الاتباع، ونعيم التأسي وحلاوة الاقتداء وينفك من أسر البدعة وقيودها، وتنجلي عنه ظلمتها؛ فيسعد بالنور بعد الظلمة، وبالسعة بعد الضيق، وباليسر بعد العسر.

(4) التربية على الأخوة الإسلامية

       مدرسة الحج تربي على الأخوة الإسلامية؛ فالله -تعالى- يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات: 10)؛ فالحاج يستشعر معنى الأخوة الإسلامية من خلال لقائه بإخوانه المسلمين من شتى بقاع الأرض، تصافحت الأيدي، وتآلفت القلوب، وغمرتهم المحبة والتعاون والتسامح.

 

(5) يتعلم المسلمون الوحدة والاتحاد

       في مدرسة الحج يتعلم المسلمون الوحدة والاتحاد؛ فالمسلمون قدموا من كل فج عميق، اختلفت بلدانهم وألوانهم ولغاتهم، لكنهم اجتمعوا واتحدوا في لباس واحد، ومكان واحد، وجاؤوا لرب واحد؛ طمعاً في عفوه ورحمته، ومظاهر الوحدة والاجتماع بين الحجاج في المناسك ظاهرة لا تخفى على ذي بصيرة.

(6) ذكر الله وتمجيده وتعظيمه

        مدرسة الحج تربي الحاج على ذكر الله وتمجيده وتعظيمه؛ فالذكر من أعظم المقاصد التي أرادها الله من عبادة الحج، قال -تعالى-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}(الحج: 27، 28)، ورحلة الحج من بدايتها إلى نهايتها ذكر لله -عز وجل-؛ فالحاج يذكر الله في تلبيته وطوافه وسعيه، وفي عرفات يدعو الله ويرجوه، وفي مزدلفة يذكره ويوحده؛ يقول الله -تعالى-: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (199) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(البقرة: 198، 199).

(7) ترويض على الصبر والحلم

        الحج تزكية للنفوس وترويض على الصبر والحلم والإعراض عن الجاهل، وتحمل المشقة في سبيل مرضاة الله -تعالى؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «من حج ولم يرفث ولم يفسق عاد من حجه كيوم ولدته أمه»، ومن أعظم ما يتربى عليه المسلم في الحج ضبط الجوارح وكفها عما حرم الله -عز وجل-، والبعد عن الفسوق والعصيان والمخاصمة والجهل، ومن خلال محظورات الإحرام تربية وتدريب على ترك المحرمات، وهجر الرذائل والقبائح، والبعد عن الفسوق والآثام.

(8) تربية للنفس على النظام والانضباط

       مدرسة الحج تربية للنفس على النظام والانضباط وعدم الفوضوية؛ فالمواقيت لا تتجاوز إلا بإحرام، وهناك الفدية والجزاء لمن ارتكب محظورا، ومن يتأمل المناسك يرى فيها دقة عجيبة في إدارة الوقت؛ فالحج له ميقات زماني ومكاني، ولعرفة ومزدلفة حدود وزمان، للوقوف والمبيت كذلك والرمي له زمان وعدد وترتيب، وجدول الحاج منظم تبعا لمناسك الحج، وهذا كله يجعله منضبطاً في أوقاته دقيقا في مواعيده.

(9) معالجة للنفس بتعظيم حرمات الله

       وفي الحج معالجة للنفس بتعظيم حرمات الله، وتوقير شعائر الله والأزمنة والأماكن الفاضلة؛ فالحاج يتذكر حرمة الزمان والمكان، فالزمان هو الشهر الحرام، والمكان هو البلد الحرام، وكفى بذلك رادعا عن الحرام، وزاجرا عن انتهاك حدود الله، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}(الحج: 32).

(10) إعلاء لشأن المرأة وبيان قدرها

       ومدرسة الحج إعلاء لشأن المرأة وبيان قدرها ومنزلتها في الإسلام، وفي الحج صور متعددة من تكريم المرأة ورعايتها وصيانتها، فعندما قام ذلك الرجل وقال: يا رسول الله، اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انطلق فحج مع امرأتك»، ولما لم يلزم الإسلام المرأة بالجهاد؛ حفاظاً عليها وتقديراً لضعفها، أبدلها الله مكانه الحج والعمرة، قالت عائشة -رضي الله عنها- قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: «نعم عليهن جهاد لا قتال فيه؛ الحج والعمرة» (رواه أحمد وابن ماجه)، وفي خطبة الوداع تأتي الوصية بالنساء: «ألا واستوصوا بالنساء خيرا؛ فإنهن عوان عندكم».

(11) الحج مدرسة للتيسير والسعة

       الحج مدرسة للتيسير والسعة؛ فاليسر والسهولة ورفع المشقة سمة من سمات دين الإسلام، وتظهر صور ذلك بينة في الحج، فالحج لمن استطاع إليه سبيلا، وقد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فما سئل النبي عن شيء قدّم ولا أخّر إلا قال: «افعل ولا حرج»، وأذن للعباس بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، والإذن للضعفة من النساء والصبيان بالإفاضة من مزدلفة ليلاً ورمي جمرة العقبة قبل وقتها، وغير ذلك من شواهد التيسير والبعد عن التعسير على الحجاج.

       بل إن التخيير عند الأمر فيه من التيسير والتسهيل الشيء الكبير، فأنت مخير في حجك بين التمتع والقران والإفراد، ومخير بين الحلق والتقصير، ثم أنت مخير في التعجل أو التأخر نهاية الحج، ولا شك أن هذا درس عظيم للدعاة والمربين ولكل مسلم في اتباع التيسير والتخفيف والبعد عن التعسير والعنت والمشقة على الآخرين؛ عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا».

(12) تعظيم لشأن الأمن والسلام

         وفي مدرسة الحج تعظيم لشأن الأمن والسلام، وبيان رسالة الإسلام في الحفاظ على مقومات الأمن الشامل واستتبابه؛ ذلك أن الله -تعالى- عظم شأن بيته الحرام، وحرّم مكة منذ خلق السموات والأرض؛ قال -تعالى-: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا}(النمل: 91)، وقال -سبحانه-: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}(البقرة: 125)، و‏قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن مكة حرَّمها الله ولم يحرِّمها الناس؛ فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرا».

       وقد توعد الله -سبحانه- من همّ بعمل سوء في الحرم؛ فقال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}(الحج: 25)؛ فالحاج المسلم يستشعر قدسية الحرم وعظمة المشاعر، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}(العنكبوت: 67).

       هذه بعض دروس مدرسة الحج؛ فما أعظم مدرسة الحج حين تهب الحاج ميلادًا جديدًا! يفضل على ميلاده من بطن أمه، كيف لا وهو ميلاد الهداية والصلاح؟! فطوبى لمن تربى في مدرسة الحج؛ فعاد من حجه مخلوقاً جديدا وشخصا معطاء.

 

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك