دروس مستفادة من صلح الحديبية (6) ضبط النفس وكظم الغيظ
سطَّر القرآن الكريم الدروس والفوائد التي تضمنها صلح الحديبية في ثنايا سورة الفتح، وقد جعل الله -تعالى- ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود، - رضي الله عنه -، وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية، واليوم مع الدرس السابع وهو جرائم الكفر لا تمنع المؤمنين من ضبط النفس وكظم الغيظ.
كيف تعامل المؤمنون مع حمية الجاهلية التي وصفها الله بقوله:- {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الفتح: ٢٦)، تلك الحمية النابعة من الكبر والغرور والغطرسة، التي جعلتهم يقفون في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه يمنعونهم من المسجد الحرام، ويحبسون الهدي الذي ساقوه، في سابقة لم تعرفها العرب، وذلك حتى لا تقول العرب إنه دخلها عليهم عنوة، تلك الحمية التي تبدت في رد سهيل بن عمرو لاسم الرحمن الرحيم، ولإنكاره لصفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثناء كتابة الاتفاقية.
الحمية من خلق أهل الجاهلية
وقد أضاف القرآن الحمية إلى الجاهلية لبيان تحقيرها وتشنيعها؛ فإنها من خلق أهل الجاهلية الذي استحقوا به الذم، ولحق بهم بسببها العار والشنار، فهم لا يدافعون عن قضية عادلة، أو حق ظاهر، وإنما امتلأت قلوبهم بالعقائد الفاسدة والتصورات الكاسدة.
حفظ الله للصحابة من الغضب
أما المؤمنون فقد ودوا أن يقاتلوا المشركين وأن يدخلوا مكة عنوة غضبا من صدهم عنها، ولكن الله صرف عن قلوبهم هذا الغضب؛ إذ لو ترك هذا الغضب المشتعل في القلوب لأقام حربًا لا نهاية لها، ولكن الله أراد أمرًا آخر، فأنزل عليهم السكينة، أي جعل في قلوبهم الثبات والطمأنينة، فعصمهم من مقابلة الحمية بالغضب والانتقام، فقابلوا الحمية بالتعقل والتثبت فكان في ذلك خير كثير.
أهداف النبي - صلى الله عليه وسلم
وما أسهل أن ينقاد الإنسان لعواطفه، ويطلق لها العنان! وما أسهل من أن يستجيب القائد لضغط جنوده المتحمسين، فيوردهم مواطن الردى تحت شعار الشجاعة والإقدام وصدق البذل! لذا لم يكن موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين سهلا في أثناء مفاوضات الهدنة وبعدها حتى عودتهم إلى المدينة المنورة، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرف أهدافه القريبة والبعيدة ويعمل على تحقيقها بصبر وأناة وإصرار، ولكن كيف السبيل الى إفهام كل تلك الأهداف للمسلمين في مثل تلك الظروف؟
ما أصعب موقف المسلمين!
أما المسلمون، فما أصعب موقفهم! لم يكن أحد منهم يشك في دخول مكة، فانهارت آمالهم في أثناء المفاوضات، ولم يكن أحد يفهم ما يسوغ الهدنة، فشاهدوا هذه الهدنة أمرا مفروغا منه، وكانت عقيدتهم تطغى على كل شيء سواها، فوجدوا إخوانهم المستضعفين من المسلمين يردّون إلى المشركين ليفتنوهم عن دينهم، ولو كان المسلمون ضعفاء أو يشعرون بالضعف لهان الخطب، ولكنهم كانوا أقوياء ماديا ومعنويا، فكيف يقتنعون بالهدنة في شكلها وأسلوبها الذي كان؟
إن حسن إدارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتلك المفاوضات وبعدها، على الرغم من تذمر بعض المسلمين، وضبط المسلمين لانفعالاتهم في مثل ذلك الموقف على الرغم من حنق بعضهم على المفاوضات والهدنة، كل ذلك يدل على تحلي المسلمين حينذاك بالضبط المتين بشكل يدعو الى الإعجاب الشديد.
الحكمة من العفو
وقد أشار القرآن إلى الحكمة من العفو وحبس النفس عن الانتقام، فقال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (الفتح: ٢٤)، فإنه لما كان المسلمون مرابطين في الحديبية، هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح، من قبل جبل التنعيم، يريدون غرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أسرهم سلمة بن الأكوع حين جاؤوا بأولئك السبعين الأسارى فأوثقوهم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إليهم وقال: «أرسلوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه». وفي ذلك أنزل الله هذه الآية.
كف الأيدي عن القتال
وهذه الآية أشارت إلى أن كف الأيدي عن القتال يسره الله رفقا بالمسلمين وإبقاء على قوتهم، والمراد أنه لم يكفهم عنكم ولا كفكم عنهم إلا الله -تعالى-، فإنهم كانوا يريدون الشر بكم، وأنتم حين أحطتم بهم كنتم تريدون قتلهم أو أسرهم فإن دواعي امتداد أيديهم إليكم وامتداد أيديكم إليهم متوفرة، فلولا أن الله قدر موانع لهم ولكم لاشتبكتم في القتال، فكف أيديهم عنكم بأن نبهكم إليهم قبل أن يفاجئوكم، وكف أيديكم عنهم حين أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يعفو عنهم ويطلقهم.
قال ابن كثير: «هذا امتنان من الله على عباده المؤمنين حين كف أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوء، وكف أيدي المؤمنين من المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل صان كلا الفريقين، وأوجد بينهم صلحا فيه خير للمؤمنين، وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة».
كف الله الأعداء عن المسلمين
في المقابل يتعجب الإنسان كيف يكف الله يد الأعداء عن المسلمين في كل زمان ومكان رغم امتلاكهم لأنواع من القوة الهائلة؟ وكيف ألجمهم عن إبادة المسلمين عن بكرة أبيهم؟ قدَّر الله ذلك ليعلم المؤمنون أن الله على كل شيء قدير، وأن الأسباب المادية لا تكفي وحدها لتحقيق النصر والتمكين، بل إن تأجج الإيمان في قلوب المؤمنين كفيل بأن يقلب الموازين، وأن يغير النتائج.
لاتوجد تعليقات