رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد الشحات 27 يونيو، 2021 0 تعليق

دروس مستفادة من صلح الحديبية (5) عقيدة المنافقين الفاسدة

 

الحكم والفوائد التي تضمنها صلح الحديبية أكبر وأجَّل من أن يحيط بها أحد إلا الله الذي أحكم أسبابها، وقد سطَّر القرآن هذه الدروس والفوائد في ثنايا سورة الفتح؛ حيث أنزل الله -عز وجل- هذه السورة فيما كان من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر الكافرين، وجعل ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود، - رضي الله عنه -، وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية، واليوم مع الدرس الخامس من الدروس المستفادة من هذا الصلح وهو: أعذار المنافقين مفضوحة وقلوبهم ميتة

     أبى المتقاعسون أن يخرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسوء ظنهم بالله، ولتوقعهم الشر والضرر بالمؤمنين الذاهبين إلى قريش في عقر دارها، ولكنَّ المتقاعسين لن يكشفوا عن حقيقة ما في قلوبهم، وسوف يتعللون بأعذار مختلفة، ويسوقون مسوغات واهية، وليس هناك أسهل من العذر الذى يوسوس به الشيطان لكل متقاعس عن نصرة دينه وأمته: {شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا} ولو صح هذا عذراً، لما قام لنصرة دين الله أحد، وإلا فمن من الناس ليس عنده مال وأهل؟!

فضحهم الله أمام أنفسهم

     لذا فقد فضحهم الله أمام أنفسهم وأمام المؤمنين، وكشف حقيقة ما تضمره قلوبهم، قال -تعالى-: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (الفتح: ١١)، يقول الشيخ السعدى: «يذم -تعالى- المتخلفين عن رسوله، في الجهاد في سبيله، من الأعراب الذين ضعف إيمانهم، وكان في قلوبهم مرض، وسوء ظن بالله -تعالى-، وأنهم سيعتذرون بأن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن الخروج في الجهاد، وأنهم طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لهم.

إقرارهم على أنفسهم بالذنب

     قال الله -تعالى-: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فإنَّ طلبهم الاستغفار من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل على ندمهم وإقرارهم على أنفسهم بالذنب، وأنهم تخلفوا تخلفا يحتاج إلى توبة واستغفار، فلو كان هذا الذي في قلوبهم، لكان استغفار الرسول نافعا لهم؛ لأنهم قد تابوا وأنابوا، ولكن الذي في قلوبهم، أنهم إنما تخلفوا لأنهم ظنوا بالله ظن السوء.

     فظنوا {أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} أي: إنهم سيقتلون ويستأصلون، ولم يزل هذا الظن يزين في قلوبهم، ويطمئنون إليه، حتى استحكم، وسبب ذلك أمران: أحدها: أنهم كانوا {قَوْمًا بُورًا} أي: هلكى، لا خير فيهم، فلو كان فيهم خير لم يكن هذا في قلوبهم. والثاني: ضعف إيمانهم ويقينهم بوعد الله، ونصر دينه، وإعلاء كلمته، ولهذا قال: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: فإنه كافر مستحق للعقاب، {فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}».

كشف الله سترهم

     ما أصعب أن يكشف الله ستره عن عبده فيفضح سريرته، ويُظهر باطنه، ويتركه كالعريان لا ثوب يستره، ولا رداء يخفي سوأته! فالمنافقون أضمروا سوء الظن بالله، وامتلأت قلوبهم بالباطل المهلك، فتصوروا أن المسلمين لن يعودوا إلى أهليهم بالمدينة مرة أخرى، وقالوا قولتهم المشؤومة: يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه فيقاتلهم!

قلوبهم خربة كالأرض البور

     لقد ظنوا ظنهم، وزين هذا الظن في قلوبهم، حتى لم يروا غيره، ولم يفكروا في سواه، فهو عندهم يقين جازم وعقيدة راسخة لا تحتمل أن تتخلف أو تتبدل، وهذا الظن السيء ناشئ من أن قلوبهم خربة كالأرض البور التي لا حياة فيها، وماذا يُنتظر من الأرض البور إلا الهلاك والفقر والجدب، وهكذا كانت قلوبهم خالية من الإيمان بالله ومن ثمراته ولوازمه.

بين قلوب الصحابة وقلوب المنافقين

     وسبحان الله الحكم العدل! ففي الوقت الذي امتلأ فيه قلب الصحابة سكينة وطمأنينة ورضى ويقينا وثقة، كانت قلوب المنافقين خالية من أسباب الحياة، بل هي بالفعل ميتة وعطبة وهالكة، وهكذا يظن المنافقون وأشباههم في كل زمان ومكان أن المؤمنين لا ينقلبون إلى أهليهم أبدا إذا هم واجهوا الباطل المنتفش بقوته الظاهرة، ومن ثم يتجنبون المؤمنين حبا للسلامة، ويتوقعون في كل لحظة أن يستأصلوا وأن تنتهي دعوتهم فيأخذون هم بالأحوط ويبعدون عن طريقهم المحفوف بالمهالك، ولكن الله يخيب ظنهم ويبدل المواقف والأحوال بتدبيره -سبحانه-، وبحسب ميزان القوى الحقيقية.

ما الذي يخشى منه المنافقون؟

     ثم ما الذي يخشى منه المنافقون؟ إنهم بلا شك يخشون القتل، ويخشون أن يصيبهم أذى، وهم قد غفلوا عن أن الله يملك النفع والضر، وأن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه لو أراد أن يصيبهم بأذى فمن الذي يعصمه منهم، ومن الذي يحول بينهم وبين حصول النفع إذا كتب الله لهم النصر أو الظفر، أما الموت فهو أجل مقدر محتوم لن يقدمه القتال ولن يؤخره التخلف والقعود، كما قال الله في موطن آخر { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران: ١٥٤).

عقيدة المنافقين

     وكما أن يقين المؤمنين أن الإسلام سينتصر، فالمنافقون عقيدتهم أن الاسلام سيضمحل، وهذه العقيدة الفاسدة دفعتهم للتخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظناً منهم أن الاسلام سيزول وأن الكفر سيظهر، ومع ذلك ورغم أنهم في أسوأ حال، وأقبح منظر فإنهم يرون أنفسهم في نعمة عظيمة يحسدهم الناس عليها، لأنهم يظنون أن دوافعهم الخبيثة ونواياهم السيئة موجودة عند كل الناس كما هي عندهم، وأن مقاييسهم الفاسدة الكاسدة هي المقاييس التي يتعامل بها البشر جميعهم.

كشف المنافقين وفضحهم

     ومزيد من الكشف والفضح لهؤلاء المتخلفين يقول -تعالى-: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (الفتح: ١٥)، يقول ابن كثير: “ يقول -تعالى- مخبرا عن الأعراب الذين تخلفوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الحديبية؛ إذ ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى خيبر يفتتحونها، أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجالدتهم ومصابرتهم، فأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يأذن لهم في ذلك، معاقبة لهم من جنس ذنبهم. فإن الله -تعالى- قد وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم لا يشركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا يقع غير ذلك شرعا وقدرا؛ ولهذا قال: {يريدون أن يبدلوا كلام الله}».

قلوبهم مريضة

     وتأمل في دنو نفوس هؤلاء القوم كيف أنهم رضوا بأن يخرجوا مع المسلمين في مؤخرة الجيش في مقام الأتباع، لمعرفتهم أن في هذا الخروج نفعا عائدا عليهم، فهم راضون متقبلون لذلك في نظير أن ينالوا شيئاً من المغنم، فقلوبهم المريضة لا تفهم إلا اللغة المادية، ولا تهتم إلا بالزينة والمتاع، وليس عندهم مسحة خجل أو حياء تزجرهم عن إظهار هذا التناقض الفج، فهم بالأمس القريب امتنعوا من الخروج خشية أن يصابوا بمكروه أو أذى، بينما هم اليوم لا يتورعون عن طلب الخروج عندما أمنوا على أنفسهم وقوع الضرر.

النفوس الضعيفة

     والحقيقة أن النفوس الضعيفة لا تقوى على التكاليف الشاقة، كما قال -تعالى-: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح: ١٦)، فالجاهلون بحكمة الله -عز وجل- في تقديره للأمور، وأنه -عز وجل- لا يظلم مثقال ذرة، لا يُسعفهم ذكاؤهم في فهم ما يدور حولهم، فالله -عز وجل- قدر أن يكون جزاء المتخلفين الطامعين أن يحرموا، وأن يكون جزاء الطائعين المتجردين أن يعطوا من فضل الله، وأن يختصوا بالمغنم حين يقدره الله، ولكنهم يريدون المغنم بلا بذل جهد، ويطلبون الجزاء الوفير مع الاستمرار في الراحة والسكون والدعة.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك