رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أحمد الشحات 6 يوليو، 2021 0 تعليق

دروس مستفادة من صلح الحديبية (5) – تعظيم الشريعة للدماء

 

سطَّر القرآن الكريم الدروس والفوائد التي تضمنها صلح الحديبية في ثنايا سورة الفتح؛ وقد جعل -الله -تعالى-- ذلك الصلح فتحًا باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود، - رضي الله عنه -، وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية، واليوم مع الدرس السادس وهو تعظيم الشريعة للدماء

     واسى الله -عز وجل- النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الصحابة، فأخبرهم بأن كفر قريش حقيقة واقعة لا مجال لإنكارها، بل قد جمعوا إلى الكفر جريمة الصد عن البيت، فهم مستحقون للذم والعقوبة من كل وجه، والله -عز وجل- يعلم ذلك، ولكن قدر الله كف الأيدي ومنع القتال اتقاءً للمفاسد المتوقع حدوثها من جراء وقوع القتال، ومن أظهر هذه المفاسد أن يسفك المسلمون دم إخوانهم دون أن يعلموا.

حرص الشرع على تعظيم أمر الدماء

     فهناك داخل مكة مؤمنون مستضعفون يسرون إيمانهم، لا يعلم أحد حقيقتهم، فلو قدر الله وقوع القتال، واجتيحت مكة من جانب الجيش المسلم، ربما وقع منهم قتل لهؤلاء المؤمنين دون أن يعلموا حقيقتهم، ومن ثم يلحق بالمسلمين الإثم والأذى بسبب قتلهم والاعتداء عليهم، وهنا يظهر مدى حرص الشرع على تعظيم أمر الدماء وعدم الاستهانة بها حتى لو ستسفك من قبيل الخطأ والجهل، فلم يقل أحد وماذا على المسلمين من إثم إذا قتلوهم دون أن يعلموا؟ وماذا يصيب المستضعفين من أذى إذا قتلوا بالخطأ؟ فهم عند الله من الشهداء.

    ذلك لأن الشريعة لا تتعامل مع أمر الدماء بهذه الطريقة المستهترة التي يترتب عليها سفك الدماء المحرمة، والتعدي على حياة الناس دون إخبارهم، والادعاء بأنهم بذلك يقدمونهم شهداء، وهذا من السفه والجهل، فإنه لا يجوز لأحد أن يعرض حياة غيره للخطر لهدف في نفسه لا يعلمه ذلك المسكين المغرر به.

ليس كل قتال جهادا

     كما لا يجوز لأحد أن يزهق روحه دون وجه شرعي، ويظن أنه بذلك يضحي من أجل العقيدة ونصرة الدين، فليس كل قتال أو مواجهة تكون جهاداً في سبيل الله، يفوز من يُقتل تحت رايته بالشهادة؛ فإن الجهاد هو استفراغ الوسع، وبذل الجهد، وتحمل المشاق في مقاتلة العدو ومدافعته، أما غير ذلك من فليس من باب الجهاد المعروف.

     قال -تعالى-: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح: ٢٥).

      قال الشيخ السعدى:- «ذكر -تعالى- الأمور المهيجة على قتال المشركين، وهي كفرهم بالله ورسوله، وصدهم رسول الله ومن معه من المؤمنين، أن يأتوا للبيت الحرام زائرين معظمين له بالحج والعمرة، وهم الذين أيضا صدوا {الهدي مَعْكُوفًا} أي: محبوسا {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} وهو محل ذبحه وهو مكة، فمنعوه من الوصول إليه ظلما وعدوانا، وكل هذه أمور موجبة وداعية إلى قتالهم.

مانع القتال

     ولكن ثم مانع، وهو: وجود رجال ونساء من أهل الإيمان بين أظهر المشركين، وليسوا متميزين بمحلة أو مكان يمكن ألا ينالهم أذى، فلولا هؤلاء الرجال المؤمنون، والنساء المؤمنات، الذين لا يعلمهم المسلمون أن تطؤوهم، أي: خشية أن تطؤوهم {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} والمعرة: ما يدخل تحت قتالهم، من نيلهم بالأذى والمكروه، وفائدة أخروية، وهو: أنه ليدخل في رحمته من يشاء ممن آمن بعد الكفر، وبالهدى بعد الضلال، فيمنعكم من قتالهم لهذا السبب.{لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: لو زالوا من بين أظهرهم {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} بأن نبيح لكم قتالهم، ونأذن فيه، وننصركم عليهم».

حكمة يتلطف الله -تعالى بها على المؤمنين

     فلم يكن إذًا كف الله للمؤمنين عنهم إبقاءً عليهم لأن جرمهم صغير، كلا! إنما كان ذلك لحكمة أخرى يتلطف الله -سبحانه- فيكشف عنها للمؤمنين: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ، أَنْ تَطَؤُهُمْ، فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ»، فلقد كان هنالك بعض المستضعفين من المسلمين في مكة لم يهاجروا، ولم يعلنوا إسلامهم تقية في وسط المشركين. ولو دارت الحرب، وهاجم المسلمون مكة، وهم لا يعرفون أشخاصهم، فربما وطؤوهم وداسوهم وقتلوهم. فيقال: إن المسلمين يقتلون المسلمين! ويلزمون بدياتهم حين يتبين أنهم قتلوا خطأ وهم مسلمون.

حكمة هداية الكافرين

     ثم هنالك حكمة أخرى، وهي أن الله يعلم أن من بين الكافرين الذين صدوهم عن المسجد الحرام، من قسمت له الهداية، ومن قدر له الله الدخول في رحمته، بما يعلمه من طبيعته وحقيقته ولو تميز هؤلاء وهؤلاء لأذن الله للمسلمين في القتال، ولعذب الكافرين العذاب الأليم: {لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.. وهكذا يكشف الله للجماعة المختارة الفريدة السعيدة عن جانب من حكمته المغيبة وراء تقديره وتدبيره.

فقه الموازنات وفقه المآلات

      وقد دل الموقف على اعتبار النبي - صلى الله عليه وسلم - لفقه الموازنات وفقه المآلات وفقه المصالح والمفاسد، «فبين رغبتين جامحتين: رغبة لقريش ألا يدخل عليهم مكة هذا العام أبدا، ورغبة المسلمين أن يدخلوا مكة ويطوفوا بالبيت الحرام، ورجوعهم هزيمة عسكرية لهم، بين هاتين الرغبتين الجامحتين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوازن بآفاق أبعد وآماد أرحب، وهل من هزيمة أعظم من قبول قريش المصالحة وبعثه وفد بذلك، قريش قبل عام واحد تحاصر المسلمين مع من جيشت من العرب، وتأتيهم من فوقهم ومن أسفل منهم وهي اليوم تبعث وفدا للمصالحة مع المسلمين على مشارف مكة.

نصر كبير ولا شك

     إنه نصر كبير ولا شك، والنصر الآخر هو أن تقف مكة على الحياد، وتقف الحرب في جزيرة العرب، وتفتح أبواب الجزيرة أمام المد الإسلامي. إنه نصر ساحق ولا شك، وأن يعود المسلمون في العام القادم ويدخلوا مكة باعتراف رسمي وحماية رسمية دون أن يتعرض لهم أحد بسوء، إنه نصر كبير ولا شك، وأن تفتح قريش صفحة جديدة مع المسلمين وتعترف بكيانهم ودولتهم، ويسود الأمن والود بين الفريقين. ويفتح باب الحوار الجديد مع قادة مكة من موقع القوة.

الرغبة في إسلام أهل مكة

     هذا من جهة، ومن جهة ثانية: ماذا يعني إصرار المسلمين على دخول مكة عنوة؟ إن أول معانيه، أن يكون الحقد والثأر هو الذي يطبع نفوس أهل مكة جميعا، وهذا يسد إلى فترة غير قليلة باب الدخول في الإسلام أو التفكير به، وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغيب عن قلبه أبدا رغبته في إسلام أهل مكة. وهذه خسارة فادحة، وأن تقع معركة غير متكافئة يسقط فيها مئات الشهداء من المسلمين لدخول مكة، وهم قرة عينه وخيرة جنده، فهذه خسارة فادحة ثانية، وأمام هذه التوازنات جميعا وبتسديد الوحي، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماضيا في خطته، لا يراوده فيها أدنى شك، نلحظ ذلك من خلال إجابته الواضحة الصارمة لعمر بن الخطاب: «أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك