دراسة في واقع المجتمعات الإسلامية- الاستشراق قديما وحديثا وواقعنا المرير
تطور الاستشراق بعد ذلك وتم إنشاء جمعيات ومدارس لمتابعة الدراسات الاستشراقية في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وأمريكا
بدايات الاستشراق تمثلت في الصراع بين العالمين الإسلامي والمسيحي في بلاد الأندلس وما تبعها من حملات صليبية على الشرق
الاستشراق قضية يغلب الانطباع لدى الكثير من الناس أنها قضية ثقافية في المقام الأول، وينصب جل اهتمامها على الجانب الفكري، في حين أن دراسة قضية الاستشراق يوضح أمورا أعظم خطرا وأشد مرارة من مجرد تلك النظرة السطحية. وسنسعى في هذه السلسلة من المقالات إلى استعراض نبذة بسيطة حول تلك القضية وآثارها في الواقع وتأثيراتها على المجتمعات الإسلامية.
ولتكن البداية مع استيضاح تعريف الاستشراق، فالاستشراق يعني علم الشرق. أما تعريفه الاصطلاحي فقد تعددت التعريفات الاصطلاحية له، المهم لنا هو ما يمكن تلخيصه في أنه: العلم الذي يُعنى بالدراسات الغربية المتعلقة بالشرق الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته عموما.
نبذة تاريخية عن نشأة الاستشراق
من الصعب تحديد تاريخ لبداية الاستشراق لكن هناك بعض الإرهاصات للاستشراق يذكرها المؤرخون مثل: ذكرهم مجهودات يوحنا الدمشقي (676 – 749 م) ودراساته بهدف حماية المسيحيين من اعتناق الدين الإسلامي، ويرى آخرون أن بدايات الاستشراق كانت في القرن العاشر، وآخرون يرونه في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي، لكن يمكن عَدُّ البداية الرسمية المنظمة للاستشراق بصدور قرار المجمع الكنسي بفيينا عام 1312 م بإنشاء عدد من الكراسي للغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية.
وقد بدأ ظهور مصطلح «مستشرق» في نهاية القرن الثامن عشر في إنجلترا عام 1779م، وفي فرنسا عام 1799م، وأدرج مصطلح الاستشراق في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838م.
أسباب نشأة علم الاستشراق
بدايات الاستشراق تمثلت في الصراع بين العالمين الإسلامي والمسيحي في بلاد الأندلس وما تبعها من حملات صليبية على الشرق؛ وهو ما حدا بالأوروبيين المسيحين بدراسة الدين الإسلامي؛ في محاولة لصد الأوروبيين المسيحين عن الدخول في الإسلام من خلال نشر افتراءات وأكاذيب وخزعبلات عن الإسلام وعن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بغرض تشويه صورته لدي الأوروبيين المسيحين في تلك الفترة التي كانت تتميز بأنها فترة من التخلف والاستبداد، وسميت بعصور الظلام في أوروبا.
ثم تطور الأمر إلى استغلال الاستشراق في محاولات نشر المسيحية والتنصير في بلاد المسلمين، وكان من أوائل المتحمسين لدراسة لغات المسلمين من أجل التنصير (روجر بيكون 1214 – 1294م)، وسعى إلى إقناع المسلمين ببطلان الإسلام وتنصيرهم. وتتابعت الجهود والمخططات في هذا المضمار من خلال عدد من المستشرقين مثل رايموند لول وجيوم بوستل جوزيف اسكاليجر.
وتميزت تلك الفترة بقيام المستشرقين بجمع المخطوطات الإسلامية من البلاد الإسلامية لتحقيق أهداف مختلفة وهو الأمر الذي كان واضحا بجلاء في خطاب للمراجع الأكاديمية في جامعة كامبرديج بتاريخ 9 مايو 1636م: «ونحن ندرك أننا نستهدف من هذا العمل الاقتراب من الأدب الجيد بتعريض جانب من المعرفة للنور بدلا من احتباسه في نطاق هذه اللغة التي نسعى لتعلمها، ولكننا نستهدف أيضا تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية وإلى تمجيد الله بتوسيعه حدود الكنيسة والدعوة إلى الديانة المسيحية بين هؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات».
وفي تلك الفترة تم إلزام كل تاجر أو سفينة تجارية ذاهبة إلى الشرق بجمع أكبر عدد من المخطوطات وشرائها ونقلها إلى أوروبا، هذا فضلا عن أن الجهات المعنية في أوروبا أرسلت مبعوثين لها لجمع المخطوطات سواء بطرق مشروعة أم غير مشروعة.
وتطور الاستشراق بعد ذلك وتم إنشاء جمعيات ومدارس لمتابعة الدراسات الاستشراقية في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وأمريكا، وقامت تلك المنظمات بعقد العديد من المؤتمرات، وأصدرت عددا من المجلات مثل مجلة الإسلام الألمانية، ومجلة ينابيع الشرق بفيينا، ومجلة الإسلام بفرنسا، التي تحولت بعد ذلك إلى مجلة الدراسات الإسلامية.
ولقد لعب الاستشراق دورا مهما ومؤثرا في الاستعمار العسكري، وقد لعب عدد من المستشرقين دورا بارزا في خدمة الاستعمار الأوروبي كأحد ثمرات تلك الدراسات، ومن أمثلة أولئك المستشرقين كارل هينريش بيكر وسنوك هورجرونيه انتحل اسماً إسلامياً (عبد الغفار)، ودخل مكة المكرمة، وأقام بها ما يقرب من العام والنصف، ودي ساسي كان أحد المستشارين لوزارة المستعمرات الفرنسية وغيرهم.
أهداف المستشرقين
المتابع لقضية الاستشراق يدرك مدى ضخامة الجهود المبذولة من المستشرقين لتحقيق أهدافهم التي يمكن تلخيصها فيما يأتي:
أ. أهداف دينية:
كمحاربة الإسلام والبحث عن نقاط ضعف فيه -زعموا- وإبرازها، وهو الأمر الذي يظهر بوضوح في مناقشة آراء المستشرقين لاحقا في القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وسلم والسنة النبوية وغيرها. فضلا عن حماية المسيحين كما ذكرنا من الإسلام وإبعادهم عن حقيقته. ومن الأهداف الدينية أيضا التبشير وتنصير المسلمين.
ب. أهداف سياسية:
وتتمثل بجلاء ووضوح في الاستعمار العسكري والفكري (كما سيتضح في المقالات التالية).
ج. أهداف تجارية:
فقد اهتم الأوروبيون بتوسيع تجارتهم في بلاد الشرق للحصول على المواد الأولية لصناعاتهم منذ بدايات عصر النهضة.
د. أهداف علمية:
يقصد من ورائها نقل التقدم العلمي لدي المسلمين في تلك الفترات إلى أوروبا، التي كانت تعيش في فترة من التخلف؛ ولاسيما في مجالات الطب والهندسة والفلك، فكما قال بوستل: «ليس هناك أحد يستطيع أن يرفض وسائل علاج الطب العربي، فابن سينا يقول في صفحة واحدة أو صفحتين أكثر مما يقوله جالينوس في خمسة أو ستة مجلدات كبيرة».
لاتوجد تعليقات