داء الأمـة وعلاجهـا
يصطرِعُ العالمُ اليوم على رغَباتٍ سياسيَّة وقوميَّة، ودينيَّة واقتصاديَّة، ويعيشُ أزمَاتٍ حادَّةً نتيجة الأهواء الفردية والمطامِع الإقليمية، واستِبدادًا يستمِدُّ بقاءَه بالبطش والاعتِداء. أنتجَ ذلك البغيَ والظلمَ، واشتِعالَ الحُروب، وسقوطَ الضحايا وخرابَ الديار؛ مما يُهدِّدُ العالمَ كلَّه بالاضطرابِ وسُوء الحال، وقد نالَ المُسلمين قِسطٌ وافِرٌ من هذا البلاء، وأصابَهم ضِعفُ ما أصابَ غيرَهم، وفي الوقت نفسِه تنتظِمُ كثيرٌ من الدُّول في تكتُّلاتٍ عالميَّة، ضيَّقَت هُوَّة الخلافات بينها، وتقارَبَ بعضُها مع بعضٍ من أجل مصالِحِها، مع أن ما بيننا من عُرَى الوحدة وأسباب التضامُن والتكافُل والتعاوُن والترابُط أكثر مما بين أُمم الأرض جميعًا، كلُّ هذا وغيرُه يقتَضِي منا وقفةَ تأمُّلٍ نتدبَّرُ فيها طريقَ الخلاص، وخُطَّةً مُثلَى للنهضَة بأمَّتنا، وتجنِيبِها الفتن والحروب، والفقر والحاجَة، والمرض والجهل.
ومعلوم أن التكاتُف والوحدة والتضامن فِطرةٌ في الخلق، ومبدأٌ إسلاميٌّ أصيل، وأمرٌ إلهيٌّ جليل، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103)، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «مثَلُ المُؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفِهم مثَلُ الجسَد الواحِد؛ إذا اشتَكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَد بالسَّهَر والحُمَّى» أخرجه الشيخان، وأولُ شيءٍ فعلَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد مُهاجَره إلى المدينة أن آخَى بين المُهاجِرين والأنصار، وتكرَّرَت الآيات والأحاديث في الحثِّ على الاجتماع ونبذ التفرُّق، ومع أنه مأمورٌ شرعًا إلا أنه مُتحتِّمٌ عقلًا؛ فالاختلافُ من عدم العقل، قال الله عز وجل: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14). وقد عذَّب الله قومًا بالتِّيه والشَّتَات، {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} (المائدة: 26).
والأمة المسلمة تملِك إرثًا تاريخيًّا وحضاريًّا في الاتِّحاد والاجتِماع، وتملِك من مُقوِّمات الوحدة أكثر من غيرِها، ولقد جرَّبَت طُرقًا تائِهة، وأنفاقًا مسدودة، وسُبُلًا مُظلِمة، فلم تنجَح في ذهابِها، ولم ترشُد في إيابِها، وعلى الأمَّةِ الإسلاميَّةِ أن تسعَى بكل صِدقٍ وإخلاصٍ إلى التمسُّكِ بأسبابِ بقائِها كأمَّةٍ، وأن تعودَ إلى سبب رِيادَتها وإلى ذاتِ رِسالتِها.
فعلى المُسلمين جميعًا أن يُدرِكُوا عِظَم المسؤوليَّة، وأن يُحافِظُوا على ما بقِيَ لهم من أوطانِهم واجتماعِهم، وأن يشرَعوا في التضامُن فيما بينهم، وتقريب شُقَّة الخلاف، والعمل الجادِّ الدَّؤُوب للسَّير في طريق الوحدة على هديٍ من الكتابِ والسنَّة، مع فهمٍ لمُجرَيَات العصر، وتقدير ظُروفِه، والتحرُّك بخُطًى ثابتةٍ بعيدةٍ عن الارتِجال ورُدودِ الأفعال، والتعامُل مع الأحداث والوقائِع بأسلوبِ العصر ومنهَج الشرعِ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الأنفال: 1).
ولو صدقَت النيَّات لاستطاعَ المُسلِمون بوحدتهم أن يُقدِّمُوا النموذجَ الصادِقَ والمثلَ الحيَّ للإسلام الحقِّ الذي تتطلَّع الإنسانيَّةُ كلُّها إليه، لانتِشالِها من عثَارِها، وإنقاذِها من تخبُّطها وإفلاسِها في عالَم القِيَم والأخلاق، وسيطَرة الأنانيَّة والماديَّة، والشهوات بأنواعها على الأهواء، وغلبَتها على أخلاقِ الشُّعوب وقرارات السَّاسَة، وعجز حضارة المادَّة عن إسعاد البشر ووقف الحروب والصِّراعات.
وإن حَتميَّة التضامُن أمرٌ يفرِضُه الواقِع، وتنصَحُ به التجربة، وتدعُو إليه المرحلةُ الحرِجةُ التي تمرُّ بها الأمةُ، في عالَمٍ يتضامنُ المُتفرِّقون فيه والمُتبايِنون ثقافةً ودِينًا وعِرقًا من أجل المصالِح المُشترَكة، ونحن أولَى بذلك التضامُن، كما قال ربُّنا عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92)، وقال سبحانه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 52).
ولن يصلُح هذا التضامُن إلا بمرجعيَّةٍ ثابتةٍ تتَّحِدُ بها الأمة، وتنطلِقُ بها نحو نهضَتَها. وهذا المرجِعُ هو الوحيُ المُتمثِّل في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسولِه صلى الله عليه وسلم ، وعلى نَهج أصحابِ النبي الكِرام، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59)، وقال عزَّ من قائلٍ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115).
لاتوجد تعليقات