رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 6 يوليو، 2021 0 تعليق

خطبة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ

 

جاءت خطبة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لهذا الأسبوع 8 من ذي القعدة 1442هـ - الموافق 18/6/2021م مبينةً لمقصد مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: ألا وهو تحقيق الْمَحَبَّةَ وَالتَّآلُفَ بَيْنَ الْبَشَرِيَّةِ، وَنَبْذَ أَسْبَابِ الْخِصَامِ وَالتَّنَاحُرِ بَيْنَ الْإِنْسَانِيَّةِ، عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأُصُولِ الْمَرْعِيَّةِ، فَلَقَدْ حَرَصَتْ عَلَى تَرْسِيخِ دَعَائِمِ التَّكَاتُفِ وَالتَّعَاوُنِ وَصَلَاحِ الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ وَالنِّيَّاتِ، وَنَهَتْ عَنْ كُلِّ مَا يُسَبِّبُ التَّفَرُّقَ وَالتَّشَرْذُمَ وَمَا يُثِيرُ الْخِصَامَ وَالضَّغَائِنَ وَالْخِلَافَاتِ.

     وَأكدت الخطبة الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الشَّرِيعَةِ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَأَجْرٌ مَوْفُورٌ كَرِيمٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَلِّفُ بَيْنَ الْقَلُوبِ الْمُتَنَافِرَةِ، وَيُهَدِّئُ مِنْ غَلَيَانِ النُّفُوسِ الْمُتَنَاحِرَةِ، وَيُعِيدُ لِلْمُجْتَمَعِ تَمَاسُكَهُ وَوَحْدَتَهُ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهِ إِلْفَهُ وَمَحَبَّتَهُ؛ وَلِهَذَا عَدَّ الشَّرَعُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ مِنَ الْأَنَامِ؛ أَفَضْلَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالتَّطَوُّعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، قَالَ اللهُ -تعالى-: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء:114). وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ» (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ». وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَا خُطْوَةٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ خُطْوَةٍ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ».

الْحُقُوق ضَرْبَانِ

إنّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ حَقُّ اللهِ -تعالى-، وَحَقُّ عِبَادِهِ، فَحَقُّ اللهِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، لَا مَدْخَلَ لِلصُّلْحِ فِيهِ كَالْحُدُودِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَإِنَّمَا الصُّلْحُ فِي إقَامَتِهَا، لَا فِي إهْمَالِهَا؛ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ. وَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَهِي الَّتِي تَقْبَلُ الصُّلْحَ وَالْإِسْقَاطَ والمُعَاوَضَةَ، وَالصُّلْحُ الْعَادِلُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا قَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} (الحجرات:9)، وَعَن عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المُزَنِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» (أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِّيُ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ).

نَدَبَ اللهُ إِلَى الصُّلْحِ

     وَقَدْ نَدَبَ اللهُ إِلَى الصُّلْحِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ فِي الدِّمَاءِ فَقَالِ -سُبْحَانَهُ-:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات:9)، وَنَدَبُ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الصُّلْحِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي حُقُوقِهِمَا، فَقَالَ: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } (النساء:128)، وَأَصْلَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْن عَوْفٍ فِيمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ، كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ wوَمُسْلِمٌ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه -، وَلَمَّا تَنَازَعَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فِي دَيْنٍ على ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، أَصْلَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا، بِأَنِ اسْتَوْضَعَ مِنْ دَيْنِ كَعْبٍ النِّصْفَ، وَأَمَرَ غَرِيمَهُ بِقَضَاءِ النِّصْفِ.

خَيْرٌ لِلْمُتَنَازِعِينَ

     وَخَيْرٌ لِلْمُتَنَازِعِينَ أَنْ يَتَصَالَحُوا الْيَوْمَ وَيَتَصَافَحُوا، قَبْلَ أَلَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ لِيَفْتَدُوا وَيَتَصَالَحُوا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).

رِسَالَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ

      إِنَّ الْإِصْلَاحَ فِي الْأَرْضِ عَامَّةً وَبَيْنَ النَّاسِ خَاصَّةً لَهُوَ رِسَالَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ دَأْبُ مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ ذَاتَ الْبَيْنِ إِذَا فَسَدَتْ بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(الأنفال:1)، وَكَانَ لِزَامًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا نَشِبَ خِلَافٌ أَوْ نَشَأَ نِزَاعٌ بَيْنَ طَرَفَينِ مِنْهُمْ- إِنْ بَيْنَ دَوْلَتَينِ أَوْ طَائِفَتَيْنِ، أَوْ جَمَاعَتَيْنِ أَوْ زَوْجَيْنِ أَوْ أَيِّ مُتَخَاصِمَينِ- أَنْ يَقُومُوا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ وَيُعِيدُوا الْقُلُوبَ إِلَى أُلْفَتِهَا وَالنُّفُوسَ إِلَى مَوَدَّتِهَا؛ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الرَّابِطَةِ الْإِيمَانِيَّةِ، وَقِيَامًا بِوَاجِبِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَبِالْإِصْلَاحِ تَحُلُّ الصِّلَةُ مَحَلَّ الْقَطِيعَةِ، وَتَقُومُ الْمَحَبَّةُ مَقَامَ الْكَرَاهِيَةِ الشَّنِيعَةِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات:10). وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ، فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ» (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).

إنهاء الخصومات

     وَهَكَذَا لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمَيْنِ مُتَخَاصِمَيْنِ أَنْ يُبْقَيَا عَلَى خُصُومَتِهِمَا بِلَا إِصْلَاحٍ، وَمَا دَامَا عَلَى حَالِ التَّقَاطُعِ وَالتَّنَازُعِ فَأَعْمَالَهُمَا مَوْقُوفَةٌ عَنِ الْمَغْفِرَةِ وَالْقَبُولِ، وَإِثْمُ هِجْرَانِهِمَا بَاقٍ عَلَيْهِمَا كَمَا أَخَبَـرَ بِذَلِكَ الرَّسُولُ؛ فَقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ).

نجاح مَسَاعِي الْإِصْلَاحِ

     وَلِكَيْ تُكَلَّلَ مَسَاعِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ بِالتَّوْفِيقِ وَالنَّجَاحِ، كَانَ لَا بُدَّ مِنْ سُلُوكِ السُّبُلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الْإِصْلَاحِ، مِنِ ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللهِ -تعالى-، وَتَجَنُّبِ الْأَهْوَاءِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَنْ يَسْلُكَ مَسْلَكُ النَّجْوَى وَالسِّرِّيَّةِ، بعيدًا عَنْ إفْشَاءِ الْأَسْرَارِ وَتَسَرُّبِ الْأَخْبَارِ.

فَإِنْ خَلَصَتْ نِيَّةُ الْمُصْلِحِينَ وَاسْتَرْشَدُوا بِالطُّرائقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَسَلِمَتْ طَوِيَّةُ الْمُتَنَازِعِينَ وَانْقَادُوا لِلْأَوَامِرِ الرَّبَّانِيَّةِ، كَانَ التَّوْفِيقُ حَلِيفَهُمْ، وَسَلَامَةُ الْعَاقِبَةِ رَفِيقَهُمْ، {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء:35).

إِصْلَاح ذَاتِ الْبَيْنِ

فَاللهَ اللهَ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ لِتَحْيَا الْأُمَّةُ حَيَاةَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّآلُفِ، وَتَنْأَى عَنْ أَسْبَابِ التَّخَاصُمِ وَالتَّخَالُفِ، وَتَتَجَنَّبَ سَخَط اللهِ وَعِقَابَهُ، وَتَنْجُوَ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَتَقْطَعَ أَسْبَابَهُ، قَالَ -تعالى-: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117).

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك