رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 18 سبتمبر، 2022 0 تعليق

خطبة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – خَطَرُ الرِّشْوَةِ

إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- امْتَنَّ عَلَيْنَا بِنِعْمَةِ إِتْمَامِ هَذَا الدِّينِ، وَاخْتَصَّ هَذِهِ الأُمَّةَ عَلَى الْعَالَمِينَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَشْرَفَ رُسُلِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ كُتُبِهِ، وَأَوْضَحَ لَهُمُ الطَّرِيقَ، وَأَنَارَ لَهُمُ السَّبِيلَ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:89). فَبَيَّنَ -جَلَّ وَعَلَا- لِعِبَادِهِ مَا يُصْلِحُهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَيُفْسِدُهُمْ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14). فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ تِلْكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ وَالدَّلَائِلُ الْوَاضِحَاتُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، أَدْرَكَ حِينَهَا أَنَّ خِيرَةَ اللهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ خِيرَتِهِ لِنَفْسِهِ، فَارْتَقَى فِي مَدَارِجِ السَّالِكِينَ، وَمَنَارَاتِ الْعَابِدِينَ، فَيَظْفَرُ حِينَئِذٍ بِطَرِيقِ الْإِحْسَانِ، وَيَبْتَعِدُ عَنْ مَسَالِكِ الرَّدَى وَالشَّيْطَانِ.

جريمة الرشوة

     إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهَا، وَرَتَّبَتِ اللَّعْنَةَ وَالْإِبْعَادَ عَلَى مَنِ اقْتَرَفَ شَيْئًا مِنْهَا: جَرِيمَةَ الرِّشْوَةِ: وَهِيَ كُلُّ مَا يُعْطَى لِإِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ لِإِحْقَاقِ بَاطِلٍ، فَهِيَ وَسِيلَةٌ مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُحَرَّمَةِ، وَطَرِيقَةٌ مِنَ الطَّرَائِقِ الْمُجَرَّمَةِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:188). وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ)، وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

     إِنَّ بَذْلَ الرِّشْوَةِ لِلْحُصُولِ عَلَى مَنْصِبٍ أَوْ عَمَلٍ، أَوْ تَحْصِيلِ صَوْتٍ انْتِخَابِيٍّ، يُعْتَـبَـرُ خِيَانَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَغِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ أَسْنَدَ الْأَمْرَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَإِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ الْأَمَانَةِ الَّتِي أَوْكَلَهَا اللهُ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَنَاءَتْ بِحَمْلِهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا قَالَ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ). قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- مُبَيِّنًا مَعَايِيرَ الِاخْتِيَارِ لِأَهْلِ الْوِلَايَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ، قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْأَحَقِّ الْأَصْلَحِ إِلَى غَيْرِهِ لِأَجْلِ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا.. أَوْ صَدَاقَةٍ.. أَوْ لِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، أَوْ لِضَغَنٍ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْأَحَقِّ أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَدَخَلَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال:27).

 

أنواع الرشوة

     اعْلَمُوا أَنَّ لِلرِّشْوَةِ أَلَوَانًا وَأَشْكَالًا وَطُرُقًا وَأَبْوَابًا، فَمِنْهَا: مَا يُخْرَجُ بِصُورَةِ هَدِيَّةٍ عَيْنِيَّةٍ، أَوْ مَصْلَحَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ، أَوْ مَنْفَعَةٍ وَظِيفِيَّةٍ، أَوْ تُسَمَّى الرِّشْوَةُ بِغَيْرِ اسْمِهَا، وَهَذَا لَا يُعْفِي مِنْ إِثْمِهَا، وَمَتَى مَا اسْتَشْرَتْ فِي الْمُجْتَمَعِ فَقَدْ آذَنَ بِالْخَرَابِ وَالْفَسَادِ وَالْخِزْيِ وَالْعِقَابِ، وَالتَّعَامُلُ بِالرِّشَى فِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة:34). قَالَ الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللهِ -تَعَالَى-: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}، قَالَ: (يَأْخُذُونَ الرِّشَى فِي أَحْكَامِهِمْ، وَيُحَرِّفُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَكْتُبُونَ بِأَيْدِيهِمْ كُتُـبًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَيَأْخُذُونَ بِهَا ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ سَفِلَتِهِمْ). وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ - رضي الله عنه - يَأْتِي يَهُودَ خَيْبَرَ كُلَّ عَامٍ، يَخْرُصُ النَّخِيلَ عَلَيْهِمْ -أَيْ: يُقَدِّرُهُ-، ثُمَّ يُضَمِّنُهُمُ الشَّطْرَ، قَالَ: «فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شِدَّةَ خَرْصِهِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ فَقَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، أَتُطْعِمُونِي السُّحْتَ؟! وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَأَنْتُمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَا يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ وَحُبِّي إِيَّاهُ عَلَى أَلَّا أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ» (رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

الْكَسْب الْحَرَام لَهُ آثَارٌ وَخِيمَةٌ

     إِنَّ الْكَسْبَ الْحَرَامَ لَهُ آثَارٌ وَخِيمَةٌ، وَعَوَاقِبُ سَيِّئَةٌ جَسِيمَةٌ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ فِيمَا أَكَلَ، مِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ: أَنْ يَسْعَى جَاهِدًا لِلْكَسْبِ الطَّيِّبِ وَالْمَالِ الْحَلَالِ، وَيَبْتَعِدَ عَنِ الْكَسْبِ الْحَرَامِ بِكُلِّ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (المؤمنون:51). وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البقرة:172)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

     فَالْمَالُ الْحَرَامُ مَهْمَا كَانَ كَثِيرًا فَهُوَ مَنْزُوعُ الْبَرَكَةِ، مَمْحُوقُ الثَّمَرَةِ، وَيَجْعَلُ الْقَلْبَ قَاسِيًا، وَالدُّعَاءَ هَبَاءً ذَاهِبًا، فَاحْذَرُوا -عِبَادَ اللهِ- مَوَاطِنَ سَخَطِ الْجَبَّارِ، الَّتِي تُفْضِي بِصَاحِبِهَا إِلَى عَذَابِ النَّارِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الرِّزْقَ الْحَلَالَ يُثْمِرُ صَلَاحَ الْقَلْبِ، وَإِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ نَشِطَتِ الْجَوَارِحُ فِيمَا يُقَرِّبُ إِلَى الرَّبِّ، قِيلَ لِلْإمَامِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا عِلَاجُ الْقَلْبِ ؟ قَالَ: (الْكَسْبُ الْحَلَالُ).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك