رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 31 يناير، 2023 0 تعليق

خطبة المسجد النبوي – وقفات مع أحكام الوظيفة العامة وآدابها

 

 

جاءت خطبة المسجد النبوي بتاريخ 5 من رجب 1444هـ - الموافق 27 يناير 2023م للشيخ د. حسين بن عبد العزيز آل الشيخ بعنوان: (وقفات مع أحكام وآداب الوظيفة العامة)، واشتملت الخطبة على عدد من العناصر أهمها: من مقاصد الشريعة عمارة الكون لنفع المجتمعات والأفراد، وبعض واجبات مَنْ وَلِيَ وظيفة عامَّة، والتحذير من الرشوة وأكل الأموال بالباطل، وبعض الأحكام الشرعية والآداب المرعية في شهر رجب.

     بين الشيخ آل الشيخ في بداية الخطبة أن من مقاصد الشريعة الإسلاميَّة عمارة هذا الكون بما يعود على الناس بالنفع والصالح، للمجتمَعات والأفراد، ويدرأ عنهم الفسادَ والشرَّ العريضَ، وإن الضرورة تدعو إلى التذكير ببعض الواجبات الشرعيَّة على مَنْ وَلِيَ وظيفةً عامَّةً أو خاصَّةً؛ إذ بالإخلال بهذه الواجبات تَكْمُن العوائقُ في التنمية والتقدُّم والتطور، والكلام عن ذلك في وقفات موجَزة.

الوقفة الأولى: استشعار المسؤولية

     الواجب على كل موظف في الدولة أو القطاع الخاصّ أن يستشعر مسؤوليته أمام الله -جل وعلا-، وأن يعلم أنَّه قد تحمل أمانة عظيمة أمام الله -سبحانه-، ثم أمام ولي أمر المسلمين، وجماعتهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم مسؤول عن رعيته» مُتَّفَق عليه، فتذكَّرْ -أيها الموظف- مَوقِفَكَ أمامَ الله -جل وعلا-، واتقِ الله في المسلمين، واعلم أن حلاوة المنصب تتضمن غرما عظيما، يذكرنا به النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له أبو ذر - رضي الله عنه -: «‌ألا ‌تَسْتَعْملُني؟ -أي: تجعلني واليًا أو أميرًا- فقال -عليه الصلاة والسلام-: «يا أبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعيفٌ، وإِنَّها أمَانَةٌ، وإنها يومَ القيامةِ خِزيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلا مَنْ أَخذَها بِحَقِّها، وَأدَّى الَّذِي عليه فِيهَا»(أخرجه مسلم).

الوقفة الثانية: خدمة المسلمين أمانة

     إن القيام على تنفيذ المشاريع والمرافق التي تخدم المصالح العامَّة بالبلاد على أحسن وجه وأكمل حال أمانة كل مسؤول من أعلى سلطة إلى أدنى مستوى من المسؤولية؛ فعلى الجميع التزام الأمانة، والتحلي بلباسها، والتخلي عن الغدر، فنصوص القرآن والسُّنَّة متكاثرة على الأمر بأداء الأمانة، وخطورة التهاون فيها.

     فيا أصحاب القيادات، اعلموا أنكم مسؤولون أمام الله -جل وعلا- عن العقود التي تُجرونها، والمناقَصات التي تُشرِفون عليها، والمشاريع التي أنتم مؤتَمَنون عليها، فأنتم لا ترضون بالتفريط في مصالحكم الخاصة، فكيف تفرطون في المصالح العامة؟! عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّكُمْ ‌سَتَحْرِصُونَ ‌عَلَى ‌الْإِمَارَةِ، وَإِنَّهَا سَتَكُونُ نَدَامَةً وحَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ»(رواه البخاري)، واعلموا أن التفريط في أموال المسلمين ومشاريعهم من أعظم الموبِقات عند الله -جل علا-، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ ‌رِجَالًا ‌يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(رواه البخاري)، فكيف يرضى المسلم بهذه العقوبة العظيمة، عن هذه الدنيا الفانية؟!

الوقفة الثالثة: جريمة الرشوة

     من أسباب الخراب العظيم، والفساد الوخيم: تعاطي الرشوة، والتهاون في التصدي لها، تلك الجريمة النكراء، التي تَجعَل من الحقِّ باطلًا، ومن الباطلِ حقًّا، وتَحمِل المسؤولَ على تحقيق ما يريده الراشي مِنْ مقاصدَ سيئةٍ، ومآربَ فاسدةٍ على حساب المصالح العامَّة، فهي السحت الذي ذم الله -جل وعلا- بني إسرائيل على أخذه، والتعاطي فيه، والرشوةُ سببٌ لحصولِ اللعنةِ من الله -جل وعلا- على العبدِ؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم -: «لَعَنَ الراشيَ والمرتشيَ»(رواه الترمذي) وأبو داود، وابن ماجه، وزاد أحمد: «والرائش» وهو حديث صحيح عند أهل العلم.

     وفي حديث رواه ابن جرير: «‌كل ‌لحم ‌أنبتَه ‌السحتُ ‌فالنارُ ‌َأولى ‌به، قيل: وما السحتُ؟ قال: الرشوة في الحُكم»، وكل رشوة في وظيفة ما فهي بهذا المعنى؛ فالرشوة في المعهود الشرعي والنظام المرعي تشمل من يمتنع عن أداء عمله الوظيفيّ إلا بمال يأخذه مقابل ذلك، من صاحب الحاجة، أو يأخذ ذلك للإخلال بواجبات وظيفته، ولا يقتصر ذلك على أخذ المال، بل وتعم الرشوة كل فائدة يحصل عليها المرتشي، من أجل الإخلال بواجبات وظيفته، وهكذا من الرشوة ما يكون من الموظف لمنع حق أو إقرار باطل.

الوقفة الرابعة: التحذير من الاختلاس

     مِنَ الجُرمِ العظيمِ والإثمِ المبينِ استغلالُ المناصب للمصالح الشخصيَّة، أو الاختلاس من الأموال العامَّة للدولة؛ فربنا -جل وعلا- يقول: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(آلِ عِمْرَانَ: 161)، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ ‌عَلَى ‌عَمَلٍ ‌فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُكَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَأْتِنَا بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى»(أخرجه مسلم)، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ ‌اسْتَعْمَلْنَاهُ ‌عَلَى ‌عَمَلٍ ‌فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ» رواه أبو دواد بإسناد صحيح، فهل بعد هذا البلغ والبيان العظيم أفصح وأعظم من ذلك؟! وقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته فقال: «‌إِذَا ‌جَمَعَ ‌اللهُ ‌الْأَوَّلِينَ ‌وَالْآخِرِينَ ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ، ‌يُرْفَعُ ‌لِكُلِّ ‌غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»(متفق عليه)، فاتقوا الله أيها المسلمون.

الوقفة الخامسة: التيسير على المسلمين

     الواجب على كل موظف أن يتقي الله -جل وعلا- في المسلمين، وألا يشق عليهم، من قبل وظيفته، وأن ييسر أمورهم، وفق النظام المرعي من ولي الأمر؛ لتحقيق مصالحهم، ومنافعهم، قال -جل وعلا حكاية عن موسى-: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}(الْأَعْرَافِ: 142)، ومعنى: (وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)، يريد بذلك الرفق بهم والإحسان إليهم، كما قاله البغوي، قال الشوكاني: «أي: أصلح أمر بني إسرائيل بحسن سياستهم، والرفق بهم، وتفقد أحوالهم»، واسمعوا إلى هذا الحديث العظيم، عن عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها: قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بيتي هذا: «‌اللهُمَّ ‌مَنْ ‌وَلِيَ ‌مِنْ ‌أَمْرِ ‌أُمَّتِي ‌شَيْئًا، ‌فَشَقَّ ‌عَلَيْهِمْ، ‌فَاشْقُقْ ‌عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ»(رواه مسلم)، إنَّها دعوة عظيمة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فتنبَّهْ لها أيها المسلمُ.

الوقفة السادسة: عدم المبالغة في أسعار المناقصات

     يا أصحاب الشركات التي تعاقدت على العمل في المشاريع العامَّة، أنتم مسؤولون أمام الله -جل وعلا- عن هذه المشاريع، وسيأتي يوم تندمون فيه على التفريط في ذلك، فمن أشد المحرمات المبالغة في تقديم الأسعار الباهظة التي تقدمها الشركات حال المناقصة؛ لأخذ مشروع يصرف عليه من مال بيت المسلمين، فيحصل حينئذ التنافس على أسعار مبالغ فيها، لا لشيء إلا لأجل أن المشروع يعود للمصلحة العامة، فهذا ظلم لجميع المسلمين، الحق فيه للمسلمين يوم القيامة، هذا العمل تحرمه النصوص الشرعية، وتأباه المقاصدُ المرعيةُ، بل والأدهى من ذلك والأمرّ تنفيذ المشاريع للدولة بغش وخداع وزيف وكذب، وقد قال -[-: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»(رواه مسلم)، فتذكَّروا يا أصحاب الشركات، قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أولَ ما يُنتِنُ مِنَ الإنسانِ بطنُه، فمن استطاع ألا يأكل إلا طيِّبًا فليفعل»(رواه البخاري)، ومن أعظم الظلم في ذلك التأخير والتسويف في تنفيذ المشاريع العامة، والمماطلة على المسلمين في التسليم فيما يتعلَّق بمصالحهم، ويخدم منافع حياتهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «مطل الغني ظلم».

الوقفة السابعة: واجب أجهزة الرقابة

     وآخِرُ الوقفاتِ أيها المسلمُ، الواجب المتحتِّم، والفرض اللازم على أجهزة الرقابة التي ولَّاها وليُّ أمر المسلمين، أن تتقي اللهَ -جل وعلا-، وأن تبذُلَ جهدَها في مراقَبةِ كلِّ صغيرٍ وكبيرٍ، وأن تُحاسِب كلَّ جهةٍ مسؤولةٍ عن كل مشروعٍ محاسبةً متناهيةَ الدقةِ في الجليلِ والحقيرِ، بأدلة، باذلة أوجه التنقيب والمساءلة في كشف الحقائق وإظهار مواطن الزلل والخلل و الفساد، حاسب النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا أرسله على الصدقة، فلما قدم قال: «هذا لكم، وهذا أهدي لي»، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « ما ‌بال ‌العامل ‌نبعثه ‌فيأتي ‌يقول ‌هذا ‌لكم وهذا لي! فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟!»(متفق عليه)، وفي بعض الروايات بلفظ: «فحاسبه النبي - صلى الله عليه وسلم -»، الله أكبر! إنَّها سنة نبوية أخذت بها الحضارات المتقدمة، بما يُسمَّى بمبدأ: «من أين لك هذا؟»، وهذه سُنَّة الخلفاءِ الراشدينَ، من بعده -رضي الله عنهم وأرضاهم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك