خطبة المسجد النبوي .. هداية المؤمنين بالقرآن الكريم
- مَنْ أحبَّ القرآنَ فقد أحبَّ اللهَ والسَّعيدُ من صرَف همَّتَه إلى تعلُّمِ القرآن وتعليمِه
- القرآنُ المجيد يأخذُ بالألباب وهو أقوى سبيلٍ للدعوة إلى الإسلام
ألقاها الشيخ:
عبدالمحسن بن محمد القاسم
كانت خطبة المسجد النبوي -بتاريخ: 27 ربيع أول 1447هـ، الموافق 19 سبتمبر 2025م- بعنوان: (هداية المؤمنين بالقرآن الكريم) ألقاها الشيخ: عبدالمحسن بن محمد القاسم؛ حيث بين فيها أن الله -تعالى- خلَقَ الخلقَ وأمرَهم بعبادتِه، وبعَثَ إليهم رُسُلَه رحمةً بهم، وأنزَلَ مع كلِّ واحدٍ منهم كتابًا لِكَمَالِ الحُجَّةِ والبَيان، قال -سبحانه-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}(الْبَقَرَةِ:213)، وخَصَّ -سبحانه- القرآنَ الكريمَ من بين سائر الكُتُبِ بالتَّفضيل، جُمِعَت فيه محاسنُ ما قبلَه، وزادَه مِنَ الكمالاتِ ما ليس في غيره، فكان شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلِّها؛ فكلُّ كتابٍ يَشهَدُ القرآنُ بصدقِه فهو كتابُ الله، قال -تعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}(الْمَائِدَةِ:48).
ولم يُنزَّلْ -سبحانه- مِن السَّماء كتابٌ أهدى منه، وهو أحسَنُ الأحاديثِ المُنزَّلةِ مِن عندِ اللهِ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ}(الزُّمَرِ:23)، ولقد منَّ اللهُ على رسولِه به فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}(الْحِجْرِ:87)، وجعَلَه شرفًا له: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}(الزُّخْرُفِ:44)، قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-: «أعظمُ نعمةٍ أنعَمَ اللهُ بها على رسولِه [ كتابُ الله».شرفٌ لِمَن اتَّبعه وعَمِلَ به
القرآن الكريم شرفٌ لِمَن اتَّبعه وعَمِلَ به مِن هذه الأمَّة، قال -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ}(الْأَنْبِيَاءِ:10)، وصفَه اللهُ بأنَّه مجيدٌ، وكريمٌ، وعزيزٌ، وتحدَّى الخَلْقَ بأن يأتوا بمثلِه، أو بمثلِ عَشْرِ سُوَرٍ منه، أو بمثلِ سورةٍ منه، فصاحتُه وبلاغتُه ونظمُه وأسلوبُه أمرٌ عجيبٌ بديعٌ خارقٌ للعادة، أعجزَتِ الفصحاءَ والبلغاءَ معارضتُه، آياتُه جمَعت بين الجزالةِ والسَّلاسةِ والقوَّةِ والعُذوبة، سَمِعَه فصحاءُ العربِ وبلغاؤُهم وأربابُ البيانِ فيهم، فأقَرُّوا بتفرُّدِه، قال الوليدُ بن المغيرة -وهو مِن ساداتِ الكفَّارِ البُلغاء-: واللهِ ما فيكم رجلٌ أعلمُ بالأشعارِ منِّي، ولا أعلمُ برَجَزٍ، ولا بقصيدةٍ منِّي، ولا بأشعارِ الجنِّ، واللهِ ما يُشبِهُ الذي يقولُ شيئًا مِن هذا، ومع إعجازِه سهَّل اللهُ على الخلق تلاوتَه، ويسَّر معنَاه؛ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}(الْقَمَرِ:17)، قال ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما-: «لولا أنَّ اللهَ يسَّرَه على لسانِ الآدميِّينَ ما استطاع أحدٌ مِن الخَلْق أن يتكلَّم بكلامِ الله»، والإعجازُ في معنَاه أعظمُ وأكثرُ مِن الإعجاز في لفظِه، قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-: «جميعُ عقلاءِ الأُمم عاجِزون عن الإتيان بمثلِ معانيه، أعظمَ مِن عجزِ العربِ عن الإتيان بمثلِ لفظِه».آياتُه مُحكَمةُ الألفاظ مُفصَّلةُ المعاني
آياتُه مُحكَمةُ الألفاظ، مُفصَّلةُ المعاني؛ فآيةٌ واحدةٌ فيه بيَّنَت الحكمةَ مِن خَلقِ الثَّقلين: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذَّارِيَاتِ:56)، وجزءٌ مِن آيةٍ أصَّلَت الدِّينَ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}(النِّسَاءِ:36)، وثلاثُ كلماتٍ مَن استجابَ لها سعِدَ في الدنيا والآخرة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}(آلِ عِمْرَانَ:132)، قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: «ليس تحتَ أديمِ السماءِ كتابٌ متضمِّنٌ للبراهينِ والآياتِ على الْمَطالِب العالية مثلَ القرآنِ».لا تَفنَى عجائبُه ولا يُحاط بمُعجِزاته
القرآن الكريم لا تَفنَى عجائبُه، ولا يُحاط بمُعجِزاته ممَّا في آياته وسُوَره؛ فآيةُ الكرسيِّ أفضلُ آيةٍ في كتاب الله، تَحفَظُ العبدَ: «وَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ»، و»مَنْ قرأها في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنعْه مِن دخولِ الجنَّة إلا أن يموت»{رواه النَّسائي}، ومَنْ قرأ الآيتينِ مِن آخر سورةِ البقرة في ليلةٍ كَفَتَاهُ؛ -أي مِن الشرِّ-، وثلاثُ آياتٍ إذا قالها العبدُ، قال اللهُ: «حمِدني عبدي، وأثنى عليَّ ومجَّدني»: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}(الْفَاتِحَةِ) (رواه مسلم)، و«مَنْ حَفِظَ عشرَ آياتٍ مِن أولِ سورةِ الكهف عُصِمَ مِن الدجَّال»{رواه مسلم}، و»سورةُ الفاتحةِ أعظمُ سورةٍ فيه»، قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-: «تأمَّلتُ أنفَعَ الدعاء فإذا هو سؤالُ العَونِ على مَرضاتِه، ثم رأيتُه في الفاتحة في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(الْفَاتِحَةِ:5)»، وسورتان قصيرتان أُنزِلَتا ليلًا لم يُرَ مِثلُهنَّ قط؛ أي في التعويذ مِن شرِّ الأشرار: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}(الْفَلَقِ:1)، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}(النَّاسِ:1).آياتُه شفاءٌ مِن الأسقام
آياتُه شفاءٌ مِن الأسقام، قال أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رضي الله عنه -: «نزَلْنا مَنزِلًا، فأتَتْنا امرأةٌ، فقالت: إنَّ سيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ لُدِغَ، فهل فيكم مِن راقٍ؟ فقام معها رجلٌ منَّا، فرَقاه بفاتحةِ الكتاب، فبَرَأ»، قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: «كنتُ أُعالِجُ نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيرًا عجيبًا، فكنتُ أصفُ ذلك لِمَن يَشتكي أَلَمًا، وكان كثيرٌ منهم يَبرَأ سريعًا».القرآنُ المجيد يأخذُ بالألباب
القرآنُ المجيد يأخذُ بالألباب، وهو أقوى سبيلٍ للدعوة إلى الإسلام، قالت عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها-: «ابتنَى أبو بكرٍ قبلَ الهجرة مسجدًا بفِناء دارِه، فكان يُصلِّي فيه ويقرأ القرآن، فيقفُ عليه نساءُ المشركين وأبناؤُهم يَعجَبون منه وينظُرون إليه، وكان أبو بكرٍ رجلًا بكَّاءً لا يملِكُ عَينَيْه إذا قرأ القرآن. فقال المشركون: فإنَّا قد خشينا أن يَفتِنَ نساءَنا وأبناءَنا؛ أي: يُخرِجَهم مِن دينهم إلى دينه، وسمِع جُبيرُ بنُ مُطعِم - رضي الله عنه - رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ سورةَ الطور، فلمَّا بلغ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ}(الطُّور)، قال: كاد قلبي أن يَطير. واستمعتِ الجنُّ للقرآن فآمَنوا واغتَبَطُوا، وقالوا مُتحدِّثينَ بنعمة الله عليهم: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ}(الْجِنِّ:13)، ولو أنزلَ اللهُ القرآنَ على جبلٍ لتذلَّل وتصدَّع مِن خشيةِ اللهِ؛ حَذَرًا مِنْ ألَّا يُؤدِّيَ حقَّ اللهِ في تعظيمِ القرآن، فأمَر اللهُ الناسَ أن يأخذوا القرآنَ بالخشية الشديدة والتخشُّع.آياتُه بدَّلت أحوالَ الصحابة -رضيَ اللهُ عنهم-
آياتُه بدَّلت أحوالَ الصحابة -رضيَ اللهُ عنهم-؛ لَمَّا نزَل تحريمُ الخمر، وسمِع عمرُ - رضي الله عنه - قولَه -تعالى-: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}(الْمَائِدَةِ:91)، قال: انتهَينا، انتهَينا.(رواه أحمد)، وهرَقوها حتى جرَت في سكك المدينة. (متَّفَقٌ عليه)، وحين نزَلَت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ -أي: الجنة- حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}(آلِ عِمْرَانَ:92). قال أبو طلحة - رضي الله عنه -: «إنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاءُ، وإنَّها صدقةٌ لله، أرجو بِرَّها وذُخرَها عند الله، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «بَخٍ! ذلك مالٌ رابِح»، ولَمَّا نزَلَتْ آيةُ السِّتر والعفاف: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}(النُّورِ:31)، قالت عائشة -رضيَ اللهُ عنها-: «يرحمُ اللهُ نساءَ المهاجراتِ الأُوَل، شققْنَ مُروطَهنَّ -أَيْ: أكسيةً لهنَّ- فاختمرْنَ بها.آياتُه تزيدُ في الإيمان
آياتُه تزيدُ في الإيمان: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}(الْأَنْفَالِ:2)، ولِمنزلةِ القرآن عند الله، أجرُ تلاوتِه بعددِ الحروفِ، بل مُضاعفة؛ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قرأ حرفًا مِن كتابِ الله فله به حَسَنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها»(رواه الترمذي).أعلى اللهُ أهلَه إلى المراتب العاليةِ
ولعلوِّ القرآنِ أعلى اللهُ أهلَه إلى المراتب العاليةِ، والمنازلِ الرَّفيعةِ، وعظَّم حُرمتَهم، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحبُّ القُرَّاء ويأتمِنُهم، ويحزنُ لموتهم، وقنَت على مَنْ قتَلَهم شهرًا، ولم يَقنُتْ على أحدٍ زمنًا طويلًا إلَّا على مَنِ اعتدى عليهم، وصار الخلفاءُ الراشدون على توقيرِ أهلِ القرآنِ وإجلالِهم ومعرفةِ قدرِهم؛ فكان عمرُ - رضي الله عنه - يُدنيهم منه، ويُقدِّمهم في مجلسه، ويجعلهم أهلَ مَشورته.من أحب القرآن فقد أحب الله
مَنْ أحبَّ القرآنَ فقد أحبَّ اللهَ، قال ابنُ القيِّم -رحمهُ الله-: «وإذا أردتَ أن تعلمَ ما عندكَ وعندَ غيركَ من محبَّةِ اللهِ، فانظُر محبَّةَ القرآنِ مِنْ قلبكَ، والتذاذَكَ بسماعِه»؛ فالسَّعيدُ من صرَف همَّتَه إلى تعلُّمِ القرآن وتعليمِه، والمُوفَّقُ من اصطفاه اللهُ لتعظيمِه وتعظيمِ أهلِه والتذكيرِ به، ومَنْ أراد الهدايةَ فعليه بالقرآن، ومن أراد الانتفاعَ به فليجمَعْ قلبَه عند تلاوتِه وسماعِه، وليستشعِرْ كلامَ اللهِ إليه؛ فإنَّه خطابٌ منه للعبيد على لسان رسوله، وليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاتِه من تلاوة القرآن، ومن تدبَّر القرآنَ طالبًا منه الهدى تبيَّن له طريقُ الحق.
لاتوجد تعليقات