خطبة المسجد النبوي – مواعظ وعبر من الصغر للكبر
- القوة ليست في الجسد وحده بل هي مزيج من روح قويَّة وهمة عالية وعزيمة لا تلين
- مرحلة الشباب هي ذروة القوة ونبض الحياة وشعلة النجاح التي تضيء طريق المستقبل وهي العمر الذي تزدهر فيه الطاقات
- الطفولة هي الصفحة الأولى في كتاب الحياة تبدأ ببراءة ناصعة وضعف يحفه لطف الله ورحمته
جاءت خطبة المسجد النبوي لهذا الأسبوع بتاريخ 17 رجب 1446 هـ الموافق 17 يناير 2025م بعنوان (مواعظ وعبر من الصغر للكبر)، التي ألقاها إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ/د. عبدالباري بن عواض الثبيتي -حفظه الله-، وقد تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله -عز وجل- ومراقبته -سبحانه- قائلا أوصيكم ونفسي بتقوى الله، التي جعلها -سبحانه- سبيل النجاة، وزاد المؤمنين، ورفع بها أهل الطاعة إلى مراتب المتقين ثم شرع في خطبته فقال:
كتاب الحياة
قال الله -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}(الرُّومِ: 54)، آية تختصر مسار الحياة في كلمات بليغة، ومعان عميقة، ترسم صورة لمراحل خلق الإنسان، تبدأ بضعف الطفولة، تعلو بالقوة، ثم تعود إلى ضعف يزينه الشيب، آية توقظ العقول؛ لتدرك عجز الإنسان، وتلامس القلوب؛ لتظهر حاجته الدائمة إلى ربه، هي دعوة للتفكر في أطوار الخلق، وفي تقلب الأحوال بين القوة والضَّعْف، وفي قدرة الله المطلقة التي تدبر هذا المسار بحكمة وإتقان، كل شيء بيده، منه المبتدا وإليه المنتهى.
الطفولة هي الصفحة الأولى في كتاب الحياة
الطفولة هي الصفحة الأولى، في كتاب الحياة، تبدأ ببراءة ناصعة، وضعف يحفه لطف الله ورحمته، طفل صغير لا يملك من أمره شيئًا، أودع الله في قلوب من حوله حبًّا وحنانًا، وأحاطه بأيد ترعاه وتخفف عنه ضعفه، مشهد مهيب يبين عظمة التدبير الإلهي؛ إذ يحفظ الله هذا الطفل الضعيف ويمنحه العون من حيث لا يدري، خرج الإنسان من ظلمات بطن أمه لا علم له ولا قدرة، في عجز تام، وجهل مطبِق، ثم فتح الله له أبواب العلم، وهبه السمع والبصر والفؤاد؛ لينهل بها من معين التعلُّم والمعرفة، كل ما اكتسبه الإنسان من علم أو قوة هو هبة من الله، وعطاء من كرمه، قال الله -تعالى-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(النَّحْلِ: 78).
هذه الحقيقة تغرس في القلوب أدب العبودية، وتزرع في النفوس تواضُع المخبتين، فلا يطغى الإنسان بعلمه، ولا يغترّ بقوته، يُدرِك أنَّ كلَّ ذرة من قُوَّته، وكل حركة في جسده هي نعمة تَستوجِب شكرًا دائمًا وخضوعًا كاملًا، فالعبد مَهمَا علَا شأنُه يظل فقيرًا إلى ربه، محتاجًا إلى فضله، في كل لحظة حياته كلها هبة من الله، تستحق الحمد في كل حين، فما أعظم غنى الله، وما أبلغ فقر العبد بين يديه!
مرحلة الشباب هي نبض الحياة
قال الله -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً}(الرُّومِ: 54)، مرحلة الشباب هي ذروة القوة ونبض الحياة، شعلة النجاح التي تضيء طريق المستقبل، هي العمر الذي تزدهر فيه الطاقات، وتفتح فيه الأحلام، وترسم فيه معالم المجد، ثروة لا تُقَدَّر بثمن، وهي مَيْدان العمل والإنجاز، في هذه المرحلة تكتب أعظم قصص الكفاح، وتبنى أقوى صروح الحضارة، لا تقوم قائمة للأوطان، ولا تنهض أمة إلا بسواعد الشباب اليافعة وهمهم العالية.
استثمار مرحلة الشباب
وممَّا لا شك فيه أن قوة الشباب تزدهر حين تتفيأ ظلال الدين، وتسمو حين تغذى من معين القِيَم والأخلاق، وتتجلَّى في سماء المجد حين تُسخَّر لخدمة البلاد والعباد، من أهدر شبابه فقد أهدر عمره كله، فهو لحظة عابرة في زمن الحياة، ومن استثمره في الخير والنفع خلد أثرًا طيِّبًا، وجنى ثمارًا يانعة في الدنيا والآخرة.
ولا يغيب عن الأذهان أن قوة الشباب قد تتحول من نعمة إلى نقمة، ومن بناء إلى هدم؛ إذا تنكبت طريق الرحمن، وتنصلت من أخلاق الإسلام، وتتبعت خطوات الشيطان.
القوة الحقيقية
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً}(الرُّومِ: 54)، القوة ليست في الجسد وحده، بل هي مزيج من روح قويَّة، وهمة عالية، وعزيمة لا تلين، كم من جسد قوي يحمل همة واهنة، وعزيمة خاملة، فلا يصنع شيئًا، ولا يثمر عملًا، يضيع شبابه، ويصبح عالة على من حوله، عاجزًا عن بناء نفسه ومستقبله.
القوة الحقيقيَّة تنبع من روح إيمانيَّة، تشحذ بالطاعة، وتعزز بالاستغفار، وتثمر بالعمل الصالح؛ إنها القوة التي تتصل بربها، فيزيدها عزما وثباتًا، قال الله. -تعالى- على لسان هود -عليه السلام-: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}(هُودٍ: 52).
الشيخوخة الرسالة الصامتة
قال الله -تعالى-: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}(الرُّومِ: 54)، هكذا تمضي دورة الحياة بحكمة الله، تبدأ بضعف الطفولة، ثم تعلو قوة الشباب لتصل إلى مرحلة الشيخوخة؛ حيث تضعف الأجساد، وتخور القوى، ويشيب الرأس، وتتهالك العظام، ويقترب لقاء الله، عندما يعلو الشيب تنقشع غشاوة الدنيا عن الأعين، وتنكشف حقيقتها الزائلة، يدرك الإنسان حينئذ أن السنين مرت كأنها لحظات، وأن العمر انقضى حلمًا عابرا، يهمس في قلبه: «يا ليت قومي يعلمون أن الدنيا دار عبور، وأنها لا تدوم لأحد».
الشيبة رسالة صامتة تدعو إلى الرجوع إلى الله؛ لتصبح العودة إليه شغل القلب الشاغل، التوبة تغدو أولويته، ومحاسبة النفس ديدنه، والقرب من الله غايته الكبرى، هي فرصة العمر الأخيرة؛ لتزيين ما بقي، والاستعداد لرب الأرض والسماء.
الشيبة بداية مرحلة جديدة
ومن الجدير بالذِّكْر أن الشيبة لا تعني الاستسلام للضَّعْف، ولا الانعزال عن الحياة، بل هي بداية لمرحلة جديدة، تتوهَّج فيها الحكمةُ، وتفيض بالخبرة ونُضج التجربة.
في هذه المرحلة يصبح المسن نبراسًا يُضيء طريقَ النجاح للناشئة، ويرسم للأجيال أسس الحياة، يلهم الطامحين، ويشحذ الهِمَم بروح مفعمة بالأمل، فالعمل مع الشيبة لا يتوقف، والعطاء لا ينقطع، ما دام القلب ينبض بالإيمان والعزيمة تتجدد باليقين، هذا درس عظيم تعلمناه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ في قوله: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها».
حدود زمن الطفولة والقوة، ثم الضَّعْف والشيبة، هي متوسط عمر الإنسان، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعمارُ أُمَّتي ما بينَ الستينَ إلى السبعينَ، وأقلُّهم مَنْ يجوز ذلك».
العمر محدود
العمر رحلة قصيرة في ميزان الزمن، تُذكِّر بالمآل المحتوم، وأن النهاية تقترب مع كل لحظة تمر، الحديثُ دعوةٌ للتوازن بين متطلَّبات الدنيا والعمل للآخرة، وحثٌّ على اغتنام كل لحظة من العمر، فالعمر محدود، والفرصة لا تعود، والأعمار لا تقاس بعدد السنين، بل ما يترك فيها من أثر خالد، وعمل صالح، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله»(رواه الترمذي).
لاتوجد تعليقات