رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 21 أكتوبر، 2024 0 تعليق

خطبة المسجد النبوي – من خيرات التواضع

  • مِنْ تَواضُعِه صلى الله عليه وسلم  لخالقه ومولاه أَنْ نهى أمتَه عن الغلوِّ في إطرائِه ومدحِه
  • مِنْ أنواع التواضعِ إجلالُ الكبيرِ ورحمةُ الصغيرِ واحترامُ النظيرِ للنظيرِ ومعاشرةُ الصاحبِ بالتوقيرِ والعطفُ على المحتاجِ والكسيرِ والتوددُ إلى المسكينِ والفقيرِ
  • التواضع لِينُ الجانبِ ولطافةُ القولِ ومسالمةُ الناسِ وخفضُ الجَناحِ للمؤمنين في غير منقصة ولا مَسكنةٍ ولا مهانةٍ

جاءت خطبة المسجد النبوي لهذا الأسبوع بتاريخ 8 ربيع الآخر 1446 هـ الموافق 11 أكتوبر 2024 م بعنوان: (من خيرات التواضع)، ألقاها إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ صلاح بن محمد البدير، الذي تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله، تقوَى مَنْ يرجو دارَ النعيم والقرار، ويخاف دارَ الخزي والبوار؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آلِ عِمْرَانَ: 102).

التواضع

مِنَ الأخلاق العليَّة، والشمائل السَّنِيَّة، والشِّيَم المرضيَّة التواضع وتَرْك الزهو والخيلاء والفخر والبذخِ والتطاولِ على العباد.

تَوَاضَعْ إذا ما كان قدرُكَ عاليًا                                    فإنَّ اتضاعَ المرءِ مِنْ شِيَمِ العقلِ تَوَاضَعْ إذا ما نلتَ في الناسِ رفعةً                                     فإنَّ رفيعَ القومِ مَنْ يتواضعُ

فضل التواضع

- والتواضع: لِينُ الجانبِ، ولطافةُ القولِ، ومسالمةُ الناسِ، وخفضُ الجَناحِ للمؤمنين، في غير منقصة ولا مَسكنةٍ ولا مهانةٍ. والتواضع مجلبة للمودة والشرف والعلاء، والتغطرف مَدرَجةٌ للمقتِ والبغضِ والعداءِ، قال أبو حاتم: «ما استُجلبتِ البِغْضةُ بمثلِ التكبرِ، ولا اكتُسبت المحبةُ بمثل التواضع». وخيرُ الرجالِ مَنْ تواضَع عن رفعةٍ، وعَفَا عن قدرةٍ، وأنصَف عن قوةٍ، وشرُّ الرجالِ العِطْرِيسُ المتكبرُ، المتبجِّحُ المتفجِّرُ المتعظمُ، المختالُ المتطاولُ، الرافعُ أنفَه ورأسَه تِيهًا وكِبْرًا، الذي استخفَّه الحمقُ والجهلُ، حتى جاوَز قدْرَه وعَدَا طَوْرَهُ، ورفَع نَفْسَهُ فَوْقَ كُلِّ أَحَدٍ، ولم يَرَ حقًّا لِأَحَدٍ، وظنَّ أنَّه لا أحدَ يقدر أن يعالِيَه ويسامِيَهُ، وإذا تسنَّم المزهوُّ المعجَبُ بنفسه رتبةً، أو نال منزلةً، أو تولَّى منصبًا ملأ الْمَواطِنَ صخبًا مُذْ حَلَّها، وأفسَد بتكبُّرِه وتجبُّرِه محلَّها، وكدَّر بالمكائد والأحقاد صفوَها وبدَّد شَملَها.

أرفع الناس قدرا

ومَنْ وضَع نفسَه دون قدرِه رفعَه الناسُ فوقَ قدرِه، ومَنْ رفعَها عن حدِّه وضعَه الناسُ دون حدِّه، قال الشافعي: «أرفعُ الناسِ قدرًا مَنْ لا يرى قدرَه، وأكثرُهم فضلًا من لا يرى فضله».

مُتَبَذِّلٌ في القومِ وهْوَ مُبَجَّلٌ                               متواضعٌ في الحيِّ وَهْوَ مُعَظَّمُ مُتَوَاضِعٌ والنُّبْلُ يَحْرُسُ قَدْرَهُ

                              وأخو النباهةِ بالنباهةِ يَنْبُلُ

        قال -جل وعز-: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}(الْفُرْقَانِ: 63)، قال ابن كثير: «أي: بسَكِينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار»، وقال -جل وعز-: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(الْقَصَصِ: 83)، قال ابن كثير: «يُخْبِرُ -تَعَالَى- أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ ونَعِيمَهَا الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، جَعَلَهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الْأَرْضِ؛ أَيْ: تَرَفُّعًا عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَتَعَاظُمًا عَلَيْهِمْ، وَتَجَبُّرًا بِهِمْ، ولَا فَسَادًا فِيهِمْ»، وقال -جلَّ وعزَّ-: {وَلَا تَمْشِ في الْأَرْضِ مَرَحًا}(الْإِسْرَاءِ: 37)، قال القرطبي: «هذا نهيٌ عن الخيلاءِ وأمرٌ بالتواضعِ».

ولَا تَمْشِ فَوْقَ الأرض إلَّا تواضــعـًا                                         فكم تحتها قوم هُمُ مِنْكَ أَرْفَعُ وَإِنْ كُنْتَ في عِزٍّ وحرزٍ ومنعةٍ                                         فكم ماتَ مِنْ قومٍ هُمُ مِنْكَ أَمْنَعُ

التواضع أفضل العبادة

          وقال -جل وعزّ في صفات الأبرار الأخيار-: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(الْمَائِدَةِ: 54)؛ أَي أَنهم -مَعَ شَرَفِهِمْ وَعُلُوِّ مَكَانَتِهِمْ- عاطِفُونَ متواضعون متذللون، أَوِدَّاءُ أرقاءُ رحماءُ بالمؤمنين، وعن عياض بن حمار - رضي اللهعنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ»(أخرجه مسلم)، قال القرطبي: «التواضع نقيض التكبر، والتكبر هو الترفُّع على الغير؛ فالتواضع هو الانخفاض على الغير، وحاصِلُه أنَّ المتكبرَ يرى لنفسه مزية على الغير، تحمله على احتقاره، والمتواضع لا يرى لنفسه مزية، بل يراها لغيره؛ بحيث يحمله ذلك على الانخفاض له، مراعاة لحقه»، وعَنْ أَبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ»(رواه مسلم)، وقالت عَائِشَة -رضي الله عنها-: «إِنَّكُمْ تَغْفُلُونَ، أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ التَّوَاضُعُ» (أخرجه أبو داود في الزهد)، قال يحيى بن أبي كثير: «رأسُ التواضعِ ثلاثٌ: أَنْ ترضى بالدُّون مِنْ شرفِ المجلسِ، وأَنْ تبدأَ مَنْ لقيتَه بالسلام، وأَنْ تكرَهَ المدحةَ والسمعةَ والرياءَ بالبِرِّ».

أنواع من التواضع

مِنْ صُوَرِ التواضعِ إجلالُ الكبيرِ، ورحمةُ الصغيرِ، واحترامُ النظيرِ للنظيرِ، ومعاشرةُ الصاحبِ بالتوقيرِ، والعطفُ على المحتاجِ والكسيرِ، والتوددُ إلى المسكينِ والفقيرِ، وإرشادُ التائهِ والسائلِ والمستنيرِ. تواضَعُوا مع مَنْ تعيشون معَهم في البيوت، وتُشارِكُونَهم الزادَ والقوتَ، تواضعوا مع مَنْ تُجاوِرُنَهم في الصباح والمساء، تواضعوا مع الأهل والأولاد والنساء، تواضعوا مع الوالدينِ اللَّذَين قضى اللهُ أن تخفضَ لهما جناحَكَ، وأن تُلِينَ لهما كلامَكَ، وأن تبذلَ لهما تواضُعَكَ وتذلُّلَكَ وعطفَكَ وحنانَكَ، وأن تخفض لهما صوتَكَ، وتكفَّ عنهما تأفُّفَكَ وضجرَكَ وصراخك وصياحَكَ واستعلاءَكَ، تواضعوا مع مَنْ تُوجِّهون له الخطابَ، وتطلبون منه الجواب، تواضعوا مع العلماء والأساتذة والمدرسين والمفيدين، تواضعوا مع الطلبة والدارسينَ والمتعلمينَ، تواضعوا مع مَنْ تتعاملون معَه بيعًا وشراءً، وأجرةً وكراءً ومبادَلةً وعطاءً، ومجالسةً ومجاورةً ومزامَلةً ومصاحَبةً وإخاءً.

التواضع من الشمائل النبوية

         والتواضع مِنَ الشمائل النبويَّة، والخصائل المصطفوية، قال الله -تعالى-: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}(الْحِجْرِ: 88)؛ أي: أَلِنْ جَانِبَكَ للمؤمنينَ، وتواضَعْ لفقراءِ المسلمينَ، وارفُقْ بالضعفاءِ والمساكينِ، ومِنْ حُسنِ خلقِه - صلى الله عليه وسلم - وتواضُعِه ورِفْقِه أنَّه كان يَمُرُّ عَلَى الصِّبْيَانِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِم، وكان يُجالِسُ الْمَسَاكِينَ، ويَمْشِي مَعَ الْأَرْمَلَةِ والْيَتِيمِ في حَاجَتِهِمَا، وَكَانَتِ الْأَمَةُ تَأْخُذُ بيده، فتنطلق به حَيْثُ شَاءَتْ، وجَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ لَهَا: «يَا أُمَّ فُلَانٍ، اجْلِسِي في أَيِّ نَوَاحِي السَّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَجْلِسَ إِلَيْكِ»، قَالَ: «فَجَلَسَتْ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهَا حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا».

من تواضع النبي

         كَانَ - صلى الله عليه وسلم - في خِدْمَةِ أَهْلِهِ، وَكَانَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، ويُخيط ثَوْبَهُ، ويَحْلِبُ شاتَه ويخدِمُ نفسَه، ويُجيب دعوةَ المملوك على خبزِ الشعيرِ ويقول: «لو دُعِيتُ إلى كُرَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ لَأَجَبْتُ، ولَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ». وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامِه فَإِنْ لم يُجلِسْهُ معَه فَلْيُنَاوِلْهُ أكلةً أو أكلتينِ أو لقمةً أو لقمتينِ؛ فإنَّه وَلِيَ حرَّه وعلاجَه»، وكان هينَ المؤنةِ، لينَ الخُلُقِ، كريمَ الطبعِ، جميلَ المعاشَرةِ، طلقَ الوجهِ بسَّامًا، متواضِعًا مِنْ غيرِ ذلةٍ، جوادًا مِنْ غيرِ سرفٍ، رقيقَ القلبِ، رحيمًا بكلِّ مسلمٍ، خافضَ الجناحِ للمؤمنينَ، لينَ الجانبِ لهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويَرْكَبُ الحمارَ، وحفَر مع أصحابه الخندق يومَ الأحزاب، ونقل التراب حتى وارى التراب بياض بطنه، وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع.

وسيادةٌ قد زانَها بتواضعٍ                                 أَكْرِمْ به مِنْ سَيِّدْ مُتَوَاضِعِ فَذَرُوا التبخترَ والتجبرَ والتكبرَ والتقاطعَ،

والزموا الملاينة والمساهلة والمياسرة والتواضع، فمن تواضع لله شكره وجبره، ونصره وستره، ومن تجبر وتبختر وتكبر قهره وقسره، وحقره وكسره.

وكفى بملتمسِ التواضعِ رفعةً                                 وكفى بملتمس العلو سفالَا

مراتب التواضع

        والتواضعُ منه أَعْلَى وأدنى، والأعلى هو التواضعُ لله -تعالى-، والأدنى: هو ما عدَاه، وآيةُ ذلك تواضُع العبد لعظمةِ الربِّ وجلاله، وخضوعُه لعزتِه وكبريائِه، فكُلَّما شمخَتْ نفسُه ذكَر عظمةَ الربِّ -تعالى-، فتواضعَتْ إليه نفسُه، وانكسر لعظمةِ اللهِ قلبُه، وتطامَنَ لهيبتِه، وأَخْبَتَ لسلطانِه، ومَنْ خضَع لله -عز وجل-، واندكَّ قلبُه مِنْ هيبتِه، وانكسَر من محبته، وخشَع من مخافتِه، واستكانَ وتواضَع أعزَّه اللهُ -عز وجل- ورفعه.

شرفُ النفوسِ دخولُها في رِقِّهِمْ                                         والعبدُ يَحوي الفخرَ بالمتملِّكِ

       عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ في السَّمَاءِ فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُذْ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا» أخرجه أحمد.

تَوَاضَعْ لربِّ العرشِ عَلَّكَ تُرْفَعُ                                     فَقَدْ فَازَ عَبْدٌ للمُهَيْمِنِ يَخْضَعُ

تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لله عز وجل

         ومِنْ تَواضُعِه - صلى الله عليه وسلم - لخالقه ومولاه، أَنْ نهى أمتَه عن الغلوِّ في إطرائِه ومدحِه، عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عبداللَّهِ وَرَسُولُهُ»(أخرجه البخاري). ومِنَ التواضعِ للهِ قَبولُ الحقِّ والعملُ به، سُئِلَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنِ التَّوَاضُعِ؟ فَقَالَ: «يَخْضَعُ لِلْحَقِّ، ويَنْقَادُ لَهُ، ويَقْبَلُهُ مِمَّنْ قَالَهُ».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك