رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 20 نوفمبر، 2024 0 تعليق

خطبة المسجد النبوي – ذمّ الغيبة تصريحًا وتلميحًا

  • الغيبة أن تذكرَ أخاكَ بما يَشينه وتَعِيبُه بما فيه
  • يجب على المغتابِ التوبةُ بأَنْ يُقلِع عن الغيبة ويندم على فعله ويعزم ألَّا يعود إليها
  • ينبغي لِمَنْ سَمِعَ غيبةَ مسلمٍ أن يَرُدَّها ويزجرَ قائِلَها فإن لم ينزجِرْ بالكلام والنصيحة تنحَّى عنه وفارَق مجلسَه
 

جاءت خطبة المسجد النبوي لهذا الأسبوع بتاريخ 6 جمادى الأولى 1446 هـ الموافق 8  نوفمبر 2024 م بعنوان (ذم الغيبة تصريحًا وتلميحًا)، التي ألقاها إمام الحرم فضيلة الشيخ د/ صلاح بن محمد البدير -حفظه الله-، الذي تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله والحث على الطاعة والمداومة عليها فقال: اجعلوا التقوى زادَكم، والآخرةَ أمامَكم، واستثمِروا بالطاعة حياتَكم، وكلمةٌ تَهديكم خيرٌ من هوًى يُطغيكم؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آلِ عِمْرَانَ: 102). التنزه عن الغيبة دأب الصالحين

        من علامة العقل، وطهارة النفس، وقوة الإيمان التحفظ في المنطق، ومَنْ صلَح جَنانُه صَلَحَ لسانُه، والتنزُّه عن الغيبة والتحرُّز من سماعها والرضا بها دأبُ الصالحينَ المشفِقينَ من العذاب وسوء الحساب، فلا يستغيبون أحدًا ولا يمكِّنون أحدًا يستغيب بحضرتهم؛ لِمَا في الغِيبة من ذميم العاقبة، واستجلابِ الضغائنِ، وإفسادِ الإخاءِ، قال الفلَّاس: «ما سمعتُ وَكِعيًا ذاكرًا أحدًا بسوء قطُّ»، وقال أبو عاصم: «ما اغتبتُ مسلمًا منذ علمتُ أن الله حرَّم الغيبة»، وقال سهل بن عبدَ اللهِ: «من أخلاق الصديقين ألا يغتابوا، ولا يغتاب عندهم»، وقال بعض العلماء: «أدرَكْنا السلفَ وهم لا يرونَ العبادةَ في الصوم ولا في الصلاة، ولكِنْ في الكفِّ عن أعراض الناس»، وقال إياس بن معاوية بن قرة: «كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدورا، وأقلهم غيبة»، وكان السلف إذا عددوا مآثر رجل صالح وأثنوا عليه، قالوا عنه فيما قالوا: «لم يُسمَع في مجلسه غيبة»، وكان عبد الله بن أبي زكريا لا يرضى أن يغتاب في مجلسه أحد، ويقول: «إن ذكرتم الله أعناكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم».

إذا ما تراءه الرجالُ تحفَّظُوا

                                  فلم تنطق العوراء وهو قريبُ 

الغيبة أقبح القبائح

        الغيبة إدام اللئام، ومرعى الآثام، قال ابن كثير: «والغيبة محرمة بالإجماع»، وقال القرطبي: «لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدًا عليه أن يتوب إلى الله -عز وجل-»، وقد جاء النهي الأكيد والزجر الأكيد عن الغيبة قال جل وعز: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}(الْحُجُرَاتِ: 12)؛ أي: كما تكرهون هذا طبعًا، فاكرهوا ذاك شرعًا. ومرَّ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - على بغل ميت، فقال لبعض أصحابه: «لَأَنْ يأكلَ الرجلُ من هذا حتى يملأ بطنَه خيرٌ له من أن يأكل لحمَ رجلٍ مسلمٍ»(رواه أبو الشيخ الأصبهاني).

وأقبحُ القبائحِ الوخيمة

                                  الغيبةُ الشنعاءُ والنميمة

فتلكَ -والعياذ بالرحمن-

                                  مُوجِبةُ الحلولِ في النيرانِ

تعريف الغيبة

         والغيبةُ ذِكرُ العيب بظهر الغيب، والغيبة أن تذكرَ أخاكَ بما يَشينه، وتَعِيبُه بما فيه، قال بعض أهل العلم: «والغيبة أن تذكر أخاكَ بما يكرهُه لو بلغه، سواء ذكرتَ نقصانًا في بدنه، أو في نسبه أو في خُلقه، أو فِعْله وقولِه أو دِينِه ودنياه، حتى في ثوبه وداره ودابته، ثم لا نقصر على اللسان، بل والتعريض فيه كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والرمز والغمز والحركة والكتابة»، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَتَدْرُونَ ‌مَا ‌الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ في أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ»(أخرجه مسلم)، وعن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر مَنْ آمَن بلسانه، ولم يدخل الإيمانُ في قلبه، لا تغتابوا المسلمينَ، ولا تتبَّعوا عوراتهم، فإنَّه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته»(أخرجه أبو داود).

زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغيبة

        عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «قلتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حَسْبُكَ من صفيَّة كذا وكذا، تعني قصيرة، فقال: لقد قلتِ كلمةً لو مُزجت بماء البحر لمزجته»، قالت: «وحكيتُ له إنسانًا، فقال: ما أُحِبُّ أني حكيتُ إنسانًا وأن لي كذا وكذا»(أخرجه أبو داود والترمذي)، قال النوويّ: «وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئًا من الأحاديث يبلغ في الذم لها هذا المبلغ»، وقال الحسن البصَريّ: «والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في جسده».

لا تهتكنَّ من مساوي الناس ما سَتَرُوا

                                            فيهتكُ اللهُ سترًا من مساويكا

واذْكُرْ محاسنَ ما فيهم إذا ذُكروا

                                       ولا تَعِبْ أحدًا منهم بما فيكا

التحذير من الغيبة

       لا تستطيبوا الغيبة، ولا تستلذوا مجالس المغتابين، ولا تستحلوا ما حرَّم الله -تعالى-، واكرهوا ما كره، واجتنِبُوا ما أمرَكم باجتنابه، ولا تجاملوا الأقران والرفاق في الغيبة، والاستطالة في أعراض الناس، قال يزيد بن المهلب في وصيته لابنه: «إيَّاكُم وشتم الأعراض، فإن الحر لا يرضيه من عرضه عوض»، وقال رجل لبنيه: «إذا اجتمعتم فعليكم حديث أنفسكم، ودعوا الغياب»، وسمع قتيبة بن مسلم رجلًا يغتاب آخر فقال: «أمسك عليك، فوالله لقد مضغت مضغة طالما لفظها الكرام».

إياكَ إياكَ أعراضَ الرجالِ فإن

                                       رَاقَتْ بفيكَ فإنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ

إذا رمتَ أن تحيا سليمًا من الأذى

                                       وحظُّكَ موفورٌ وعِرضُكَ صَيِّنُ

لسانَكَ لا تَذْكُرْ به عورةَ امرئٍ

                                       فكُلُّكَ عوراتٌ وللناسِ أَلْسُنُ

وعينُكَ إِنْ أبدَتْ إليكَ مساوِيًا

                                       فغَمِّضْ وقُلْ: يا عينُ للناسِ أعينُ

وعاشِرْ بمعروفٍ وسامِحْ مَنِ اعتدى

                                       وخَالِطْ ولكِنْ بالتي هي أحسنُ

المغتاب على خطر عظيم

         والمخذول هو الغيَّاب العيَّاب الطعَّان، الذي أطلَق لسانَه في أعراض الأحياء والأموات؛ سبًّا وقدحًا وتنقُّصًا، لا يُبالي بالعواقب، ولا يستحي من الخلائق، ولا يخاف من الخالق، وذلك هو المحروم المذموم الملوم المشؤوم المغموم، قال وهيب بن الورد: «واللهِ لَتركُ الغيبةِ عندي أحبُّ إليَّ من التصدق بجبل من ذهب»، فاتق الله يا عبدَ اللهِ، وأمسِكْ عن الغيبة قبلَ أن يذهب عمرُكَ، ويخسف قمرُكَ، ويذوي غصنُكَ، ويتحاتَّ ورقُكَ.

الواجب على من يسمع الغيبة

وينبغي لِمَنْ سَمِعَ غيبةَ مسلمٍ أن يَرُدَّها، ويزجرَ قائِلَها، فإن لم ينزجِرْ بالكلام والنصيحة تنحَّى عنه وفارَق مجلسَه، وكان ميمون بن سيَّاه لا يغتاب، ولا يدع أحدًا يغتاب عنده، ينهاه، فإن انتهى وإلا قام عنه. فصن يا عبدَ اللهِ سمعك عن سماع الغيبة، قال عمرو بن عتبة: «نَزِّهْ سمعَكَ عن استماع الخَنَا، كما تُنزِّه لسانَكَ عن النطق به».

الواجب على من وقع في الغيبة

         ويجب على المغتابِ التوبةُ؛ بأَنْ يُقلِع عنها، ويندم على فعله، ويعزم على ألَّا يعود إليها، ولا يُشترَط إعلام مَنِ اغتابه، ولا التحلل منه، ولا طلب البراءة من غيبته، على الصحيح من قولَي العلماء؛ لأن في إعلامه إدخال غمٍّ عليه، وقد ينتج عن إخباره خصامٌ أو نُفرةٌ، أو تَقاطُعٌ، أو تهاجُر، أو إيذاؤه، أو تحزينه أو تكديره، قال ابن المبارك: «لا تؤذوه مرتين»، ويدعو له دعاء يكون إحسانًا إليه، في مقابل مظلمته.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك