رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 4 نوفمبر، 2024 0 تعليق

خطبة المسجد النبوي – تزكية النفوس وإصلاحها

  • الناسُ يومَ القيامةِ اثنانِ: أهلُ إجرامٍ وتدسيةٍ أو أهلُ فَلَاحٍ وتزكيةٍ
  • ما أقبل عبد إلى الله بقلبه إلا أقبل الله عز وجل بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم
 

جاءت خطبة المسجد النبوي لهذا الأسبوع بتاريخ 15 ربيع الآخر 1446 هـ الموافق 18 أكتوبر 2024 م بعنوان (تزكية النفوس وإصلاحها)، ألقاها إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ أحمد بن طالب بن حميد، الذي تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله -عز وجل- وتوحيده.

أهمية التوحيد

نوه فضيلته على أن الله -تبارك وتعالى- خلق القَلْبَ لتوحيده والإخلاص له والإقبال عليه، وأن للقلوب زكاةً ونماءً كنماء الأبدان، وأغذيةً وأدواءَ، فمَنِ اتقى نواقضَ الشرك ونواقصَه ونقَّى قلبَه من أوساخ البدع والذنوب والمعاصي فقد أفلح وتزكَّى.

قَسمُ الله -عز وجل- على فلاح من زكى نفسه

       وقد تابَع اللهُ بين سبعة أيمان أقسَم بها -سبحانه- على فلاح مَنْ زكَّى نفسَه، وخيبة مَنْ دنَّسَها قال -تعالى-: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}(الشَّمْسِ: 1-10).

حال الناس يوم القيامة

         والناسُ يومَ القيامةِ اثنانِ: أهلُ إجرامٍ وتدسيةٍ، أو أهلُ فَلَاحٍ وتزكيةٍ؛ {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}(طه: 74-76). ولا زكاةَ ولا فَلاحَ إلا بفضلِ الرحيمِ؛ {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(النُّورِ: 21). والعروة الوثقى، والوسيلة العُظمى توحيدُ محبةٍ وخضوعٍ، وصلاةُ قنوتٍ وخشوعٍ، ولسانٌ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، ومحبةٌ واتباعٌ وتعزيرٌ وتوقيرٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}(الْأَعْلَى: 14-15).

شغل النفس بالطاعة

         وإذا امتلأ القلب بشي ضاق عن غيره، قال الله -تعالى-: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ في جَوْفِهِ}(الْأَحْزَابِ: 4)، والمزاحَمةُ مدافَعةٌ، والغلبةُ للكثرةِ، والقلوبُ آنيةُ اللهِ في أرضِه، فأحبُّها إلى الله أرقُّها وأصفاها، وإنَّما يكون ذلك بما يُصَبُّ فيها؛ ولذلك لم يكن للقلب أن يتسع للشيء وضده، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «إن هذا مأدبة الله، فمن دخل فيه فهو آمن»، وما ذاك إلا لأنَّه تشبع بطعامها، وتضطلع بشرابها، ومن ترك المأمور شغل بالمحظور، ومن أنقض ظهره بالأوزار ضعف عن الأذكار، ومن أضنى نفسه في الابتداع ضعف عن الاتباع، قال -تعالى-: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(الْمَائِدَةِ: 14)، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}(الزُّخْرُفِ: 36-37)، ومن علَتْ همتُه سَلِمَتْ من الآفات مهجته، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له».

إقبال القلب على الله

ومِنْ عاجِل البشرى لمَنْ أقبَل بقلبه إلى ربه أن تُقبِل قلوبُ العباد إليه، وتتوافق على حبه، قال بعض السلف: «ما أقبل عبد إلى الله بقلبه إلا أقبل الله -عز وجل- بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم».

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}

         إذا استحلى اللسانُ ذِكرَ اللهِ وما والاه، وأسرعتِ الجوارحُ إلى طاعة الله، فحينئذ يدخل حُبُّ الإيمان في القلب، كما يدخل الماء البارد الشديد بردُه في اليوم الشديد حرُّه للظمآن الشديد عطشُه، ويصير الخروجُ من الإيمان أكرهَ إلى القلوب من الإلقاء في النار، وأَمَرَّ عليها من الصبر، وما صفَا القلبُ، ولا حلَا الذِّكْرُ، ولا صلحت الجوارحُ، ولا رُفعت الأعمالُ بمثل الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فالله أمركم بذلك، وهو -سبحانه- عليه صلى والملائك، فقال قولًا كريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(الْأَحْزَابِ: 56).

مقصد التزكية في السنة النبوية

         التزكية مقصد من مقاصد بعثة الرسل عموما، كما قال ابن القيم في مدارج السالكين: «فإن تزكية النفوس مُسلَّم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليما وبيانا، وإرشادا، لا خلقا ولا إلهاما، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم» انتهى. وهي غاية من غايات بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه الخصوص كما قال -تعالى-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ}، فهو يزكيهم بمعنى: يدلهم على ما تزكو به نفوسهم، وليس هو فاعل التزكية فيهم، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ}. وقد حاز النبي - صلى الله عليه وسلم - على التزكية الربانية في إيمانه وعبادته وخلقه، فأرسله الله لتزكية هذه الأمة، وتطهير النفوس من دسائسها وأمراضها، ومَلْئِها بكل خصال الطهر والنقاء، وقد كان ذلك في أصحابه -رضوان الله عليهم-، الذين تحقق فيهم هذا المقصد العظيم بأبهى صوره؛ حيث عمل فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على مسارات التزكية الإيمانية، والتعبدية، والأخلاقية، فكانوا صفوة لا تتكرر، وبقيت الأمة تتوارث منهجهم في التزكية، وعلى قدر قرب الأمة وبعدها من هذه القدوات يكون موقعهم من هذا المقصد العظيم (التزكية). ومفهوم التزكية كما يرى ابن تيميه في الفتاوى: «تكون بعمل الصالحات وترك السيئات أو إزالة الشر وزيادة الخير». ويمكن القول بأن تزكية النفس: عبارة عن تخلية النفس من العيوب والرذائل والآفات الظاهرة والباطنة، وتحليتها بالفضائل، والاجتهاد المتواصل في تنميتها وإصلاحها بما يرضى الله -عز وجل-، وتحقيق الاستقامة لصاحبها في الحياة الدنيا، والفلاح والنجاة في الآخرة. ومطلب التزكية ظاهر في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - المأثور، فكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، وعذاب، القبر اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك