خطبة المسجد النبوي\ بلاغة النبي -صلى الله عليه وسلم – وما ينبغي للخطباء والأئمة
جاءت خطبة المسجد النبوي بتاريخ 29 جمادي الأولى 1444هـ، الموافق 23 ديسمبر 2022، لإمام المسجد النبوي الشيخ: د.أحمد بن علي بن عبد الرحمن الحذيفي، واشتملت الخطبة على عدد من العناصر كان أهمها: لمحات من بلاغة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشرف منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعض خصائص بلاغته - صلى الله عليه وسلم -، وصفات ينبغي أن يتصف بها كل خطيب وداعية، وتفرد بلاغة النبي -صلى الله عليه وسلم - وبيانه، ووصايا ونصائح للخطباء.
في بداية الخطبة بين الشيخ الحذيفي أن هذا المنبر النبوي كان مَنطلَق بيان رسالة الإسلام، ومنبر دعوته ومَطلَعَ شمسه، من مشرق هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى مغرب الدنيا، ذرت من أفقه شمس البيان النبوي، وتضوَّع رياه من أكمامه، وانبجست عَينُه من مَعِينه، وسمقَتْ شجرتُه من بين حصبائه، ولله قول شاعره المؤيَّد بروح القدس:
بِطَيْبَةَ رسمٌ للرسولِ ومعهدُ
منيرٌ وقد تَعفُو الرسوم وتَهمدُ
ولا تنمحي الآياتُ من دار حرمة
بها منبرُ الهادي الذي كان يصعدُ
وواضحُ آثارٍ وباقي مَعالِمٍ
وربعٌ له فيه مُصلَّى ومسجدُ
معارفُ لم تُطمَس على العهد آيُها
أتاها البِلَا فالآيُ منها تجدَّدُ
هذا المنبر الشريف الذي قال عنه - صلى الله عليه وسلم -: «ما بينَ بَيتي ومِنبري روضةٌ من رياض الجنة، ومنبري على حوضي»، وفيه قال -[-: «إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة»، من ها هنا خطب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فوجَم البلغاءُ، وأطرَق الفصحاءُ، وأُفحم الخطباءُ، وأصاخت أُذُنُ الزمانِ إلى مَنطِقٍ يفيض بالبيان، ويَمُوج بالرحمة، ويتضوَّع بالعدل، وينضح بالصدق، يتخلل حنايا الصدور، ويستجيش خبايا النفوس، كأن كلماته الشريفات قبس من نور، أو لؤلؤ منثور أو ورض منطور.
رقيقاتُ المقاطعِ مُحكَماتٌ
لَوَ انَّ اللفظَ يُلبَسُ لَارْتُدِينَ
فارسُ المنابر ومِصقَعُ الخطباء
إنَّه - صلى الله عليه وسلم - فارسُ المنابر، ومِصقَعُ الخطباء، لا تدري حين كان يرقى هذا المنبر الأشرف، أضمَّ خطيبًا أم ضُمِّخَ طِيبًا، كان يرقى هذا المنبر فينهل عليه من غمائم الوحي ما يعمر القلوب يقينًا، ويملأ النفوس حنينًا، يستحثّ سحائبَ العيون، ويستدرّ مدامعَ القلوب.
كان - صلى الله عليه وسلم - إذا خطَب احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدَّ غضبُه، حتى كأنه منذرُ جيشٍ يقول: صبَّحَكم ومسَّاكم، كان يتكلم بالكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حُسن الإفهام وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسخط له كلمة، ولا زلَّت به قدمٌ، ولا بارت له حجةٌ، ولم يقم له خصمٌ، ولا أفحَمَه خطيبٌ، بل يبُزُّ الخطبَ الطوالَ بالكَلِم القصار، ولا يلتمس إسكات الخَصْم إلا بما يعرفه الخَصْم، ولا يحتجُّ إلا بالصدق، ولا يطلُبُ الفلجَ إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربةَ، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يُسهِب ولا يَحصُر، ثم لم يسمع الناس بكلام قطُّ أعمُّ نفعًا، ولا أقصد لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مَخرجًا، ولا أفصح معنًى، ولا أبينَ في فحوى، من كلامه - صلى الله عليه وسلم .
من أعظم وسائل البلاغ عن الله
إن المنبر صهوة ينبغي أن يرتقيها مَنْ كان رابط الجنان، ممسِكًا بعنان البيان، جامعًا لذلك عُدَّةَ العِلم، مثقِّفًا لها رماح الرأي، متدرِّعًا بالإخلاص لله في حاله ومقاله، فهو من أعظم وسائل البلاغ عن الله، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والنصح لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، والتذكير بما يجب التذكير به من العلم النافع والعمل الصالح، على منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنهج سلف هذه الأمة -رضوان الله عليهم-، على أن دعوة الإسلام لا تقتصر على وسيلة المنبر وحده، فلا تقف دونه ولا تنتهي إليه، بل هي رسالة تتجلَّى في جميع جوانب حياة المسلم، دعوةً وعملًا وعقيدةً وأخلاقًا، فعن سعد بن هشام بن عامر قال: «أتيت عائشة -رضي الله عنها- فقلتُ: يا أم المؤمنين أخبريني بخُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان خُلُقُه القرآنَ»، ولكن صاحب الكلمة الصادقة حين يستلّ لسانَه استلالَ السيف من غمده ويخوض به معتركَ البيان، وتختلط حروف بلاغته وبيانه بروحه وعقيدته وإيمانه تشرق كلماته إشراقةَ شمس الضحى، ويستعرّ أُوارُها في القلوب استعارَ النار في جَزْل الغضا، وحين تخرج الكلمات خابيةً خامدةً، تصل إلى الأسماع والقلوب ميتة هامدة.
إن روح المتكلم لتصطبغ بها كلماته وعباراته اصطباغ الزهر بألوانه، والربيع بأثماره، والزُّجَاج بشرابه، وها هنا يتجلَّى الصدق وتلوح أماراته، فلا تزويق الألفاظ يحرك القلوب، ولا تنميق العبارات يشعل النفوس، ما لم توقد جذوتها بحرارة الصدق.
البيان المشرَب بالوحي
إن البيان المشرَب بالوحي لَيقَعُ من النفوس موقعَ الوَبْل من المحل، والقطر على القفر، والندى على الزهر؛ ولذلك كانت معجزة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بيانًا وكلامًا من جنس كلام العرب وبيانها، قال تقدَّس اسمه: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرَّحْمَنِ: 1-4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثلُه آمَنَ عليه البشرُ، وإنَّما كان الذي أُوتِيتُ وحيًا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يومَ القيامةِ».
لكنَّه كلامٌ ربانيٌّ، وبيانٌ نورانيٌّ غير مسار التاريخ، وقلب موازي الحضارات، إلى حضارة تقوم على ساقي العلم والعدل، وأسرج حوالك الدنيا بمشكاة التوحيد، بعد أن كانت تلتحف بظلام الوثنية، وألبسها لبوس العلم والعدل، بعد أن كانت ترتدي أردية الجهل في وحل الجور والظلم.
خطر الكلمة وتأثيرها
إن للكلمة في منابر التأثير التي تعددت في عالَم اليوم خطرًا أيُّ خطر، وأثرًا أي أثر، ولاسيما ممَّن هشَّت إليه الأسماعُ، وارتاحت له القلوب، ورزقه الله حُسن الإبانةِ عن مراده، وآتاه حظًّا من القَبول بين عباده؛ فإنَّها حينئذ أمانة ثقيلة الإدِّ على حاملها، عظيمة المؤاخَذة على قائلها، تَستوجِب على المتكلمِ أن يَزِنَها بميزانها، وأن يحلها في مكانها، فربما كانت كالغيث إذا انهلَّت غواديه، أو كانت كالسهم يُصمي إذا أخطَأ راميه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»؛ فتحلَّوْا يا أربابَ البيان بحلية الأدب وهو الصدق، وتحرَّوا في قِيلِكم النصحَ وإشاعةَ الحق، كما كان حال سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -، فاعرفوا للكلمة حقَّها، وأوفوها قدرها في كل موضع ومع كل أحد، وانضحوا بأحسن القول، وانفحوا بأرج الكلم، وحسبكم في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الكلمة الطيبة صدقة».
قدِّروا مواقعَ الكلام وأحوالَ المخاطَبِينَ
أيها الخطباء الموفَّقون: قدِّروا مواقعَ الكلام، وأحوالَ المخاطَبِينَ، ومناسَباتِ القول، وزيِّنوا ذلكم بكرائم المعاني وألبِسُوها محاسنَ الكلام وبدائعَ الألفاظ؛ لتصغي لكم القلوب، فإن الكلام لتصغو كما تصغو الآذان، كما أشار لذلك ربنا جل وتقدس بقوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ}(الْأَنْعَامِ: 113).
لاتوجد تعليقات