رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 7 يوليو، 2022 0 تعليق

خطبة المسجد النبوي  – المنزلة السامِيَة لأصحاب الهمم العالية

 

جاءت خطبة الحرم النبوي بتاريخ 18 ذي القعدة 1443 الموافق 17 مايو 2022، للشيخ: د. صلاح بن محمد البدير بعنوان: المنزلة السامِيَة لأصحاب الهمم العالية، واشتملت الخطبة على عناصر عدة أهمها: صاحب الهمة العالية ينال الشرف والمجد، وصاحب الهمة العالية يصبر ويثابر، وتفاوت مكانة الناس بتفاوت هممهم، وأصحاب الهمم والكسالى لا يستوون أبدًا، والسبيل لتحقيق ما تصبو إليه نفوس ذوي الهمم، والحث على طلب العلم وعلو الهمة، وتشجيع أبناء المسلمين النابغين على التفوق والتميز، وساقط الهمة عالة على المجتمع مهين لنفسه.

 

       في بداية الخطبة أكد الشيخ البدير أنَّ السعي إلى المعالي سمة كل مثابر نهَّاض شِمِّير، بعيد المنزَعةِ، له همة تناطح النجوم، وغاية تُشامِخ الغيوم، يرَكَب المراقيَ الصعابَ، ويناضل لبلوغ الفضائل والمكارم والآراب، لا تُثنيه الصوارفُ عن مرامه، ولا تمنعه العوائقُ عن غايته.

لا يبلغُ العلياءَ غيرُ متيَّمٍ

                                                               ببلوغِها يَعصِي لها ويُطِيعُ

إدراكُ المعالي مطلبٌ شاقٌّ

وأكد أنَّ إدراك المعالي مطلبٌ شاقٌّ، لا يُنال بالدعة والتمني، ولا يكتسب بالكسل والخمول، ولا يتحصل بالعجز والانقطاع والإحجام.

ومن رام العلا من غير كدٍّ

                                                                      أضاع العمرَ في طَلَبِ المُحالِ

وقد قالت العرب: «المرء بكده، والفَرَس بشده، والسيف بحَدِّه»، ومَنْ سعى إلى المجد بهمَّة شمَّاء، وصريمة مُحكَمة، أدرَك ما حازه الكُمَّلُ من ذوي النباهة والنزاهة.

إذا كان سعيُ المرءِ سُلَّم قَصدِهِ

فإنَّ بلوغَ القصدِ لا يُتَعَذَّرُ

      والحثيث النفَّاذ لا يتزعزع عمَّا يرتئيه، ولا يُستنزَل عمَّا ينتويه، ولا يتراخى عن هدف بعد إرادته وتمنيه، والمعالي والأماني لا تتحقق إلا بالمضي والتصميم والمصابرة، وكم راغب في علم وما درس، وكم طامح في زرع وما غرس، وكم عازم على تحبيس أصل وما حبَّس، وعِلَّةُ ذلك التثاقلُ والتلكؤ والتقاعس، وضعف الهِمَم، وضَعْف الإصرار والإرادة، وذلك ديدن كل مفرط بطيء النهضة، واهن العزيمة، حبيس التردد.

تفاوت المراتب والمنازل  بتفاوت الهِمَم والغايات

      وتتفاوت المراتب والمنازل بتفاوت الهِمَم والغايات، فهمة رفيعة لا تلحق جيادها، ولا تقتفى آثارها، وهمة وضيعة، تُسامِر الأمانيَّ وتُنادم التوانيَ، والرجال قوالب الأحوال؛ إذا صغروا صغرت، وإذا كبروا كبرت، وقيمة كل امرئ ما يطلبه، وذوو المراتب العلية، والمنازل السنية، لم ينالوا ما انعقدت عليه نياتُهم، ويستوفوا ما امتدَّت إليه غاياتُهم، إلا بعد أن احتسَوْا مرارةَ المعاناة، وتحمَّلُوا المكارهَ، واستطابوا الصعابَ، وركبوا الشدائدَ، فظَفِرُوا بعد لَأيْ، وسَمَوْا بعد عسر، ودون نيل المعالي هول الليالي.

     فهل يستوي مَنْ وصَل بهمته الفراقدَ، وذوو الهِمَم الهوامد، والنفوس الخوامد، والقلوب الجوامد، والعقول الشوارد؟ وهل يستوي مَنْ تنقل في المراتب تنقل البدر في سعوده، وارتقى ذروة العلياء ارتقاء الكوكب في منازل صعوده؟ ومن أضاع زمانه في لهوه، وسهوه، وخموله، ورُقُوده؟

فلا تحسبوا أن المعالي رخيصةٌ

                                                                           ولا أنَّ إدراكَ العُلا هَيِّنٌ سَهْلُ

فَقُلْ لمرجِّي معالي الأمور

                                                                    بغيرِ اجتهادٍ رجوتَ المُحالَا

أعلى الهمم

       وأعلى الهِمَم همة قصِيَّة المرمى، جليلة المسعى، غايتها رضوان الله والجنة، فمن عظمت همته جَدَّ، ومن تذكَّر لقاءَ ربِّه استعَدَّ، ومَنْ ضَعُفَتْ همتُه ترَك العملَ، واشتغَل بالجدل، وهجَر السنن، وقدم الدنيا على الآخرة، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله، قال -جل وعز-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}(آلِ عِمْرَانَ: 133)؛ أي: سارِعُوا مسارعةَ السابقين لأقرانهم في المضارّ إلى أسباب المغفرة ودخول الجنة، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفعُكَ، واستعِنْ بالله ولا تعجز»{رواه مسلم}، قال النوويّ -رحمه الله تعالى-: «والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة»، وعن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها»(أخرجه الطبراني).

العِلْم رأس المعالي وأشرف الفضائل

      والعِلْم رأس المعالي، وأشرف الفضائل، ومن عظمت همتُه أَنِفَ من الجهل، وأقبَل على العلم، وعلمُ الشريعة هو المُنية والغُنية، مَنْ درَسَه لم تَدرُس مَفاخِرُه، ولم تَنفَد ذخائره، قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: «من تعلُّم القرآن عظمت قيمته، ومن تكلَّم في الفقه نمَا قَدرُه، ومن كتَب الحديثَ قَوِيَتْ حُجَّتُه، ومن نظر في اللُّغة رقَّ طبعُه، ومَنْ نظَر في الحساب جزل رأيُه، ومَنْ لم يَصُنْ نفسَه لم ينفعه عِلمُه»، وكتَب بديع الزمان لابن أخته يحثه على العلم، ويهدده إن رغب عنه يقول: «أنتَ ولدي، ما دمتَ والعلمُ شانُكَ، والمدرسةُ مكانُكَ، والقلمُ أَلِيفُكَ، والدفترُ حَلِيفُكَ، فإن قصرتَ -ولا إِخَالُكَ- فغيري خَالُكَ».

عصر الإبداع والاختراع

      وفي عصر الإبداع والاختراع، الذي جازت به دُوَلُه مناكبَ الجوزاء، نحثُّ كلَّ يَلمَعِي ذكي، من ذوي النبوغ والتميُّز والإبداع والموهبة، في البلاد الإسلاميَّة على حذق العلوم التي لا يستغنى عنها في قوام نظام العالم، ومعايش الناس ورقي الدول وتطورها؛ كعلوم النبات والصناعات، والطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والرياضيات، والحساب والفلك، وعلوم الأرض، وأنظمة الأرض والطيران، والصناعات الحربيَّة، والتكنولوجيا، والتقنيَّة والرقمنة، والإدارة الإلكترونيَّة، التي أصبحت حتمًا يفرضه المحيط التنافُسيّ الدوليّ، وتوجبه رعاية الضرورات، وتسهيل المعاملات، وتذليل الصعوبات، على سائر العباد، وغير ذلك من العلوم التي لو خلا بلد عمن يقوم بها حرج أهله، وضاعت مصالحه، وتعطلت منافعه، وتأخر نموه ورقيه، فكل بلاد جادها العلم أمرعت رباها، وصارت تنبت العز والعشب.

أسوأ الناس من سقطت همته

      ثم أكد الشيخ البدير أنَّ أسوأ الناس مَن سقطت همتُه، وضعُفَت إرادتُه، وفَتُرَ عزمُه، وكلَّ حَدُّهُ، يمد إلى الأمور يدًا جذماء، وينظر إليها بعين عمشاء، ويخالط الخملة والسفلة والسقاط المشائيم، ويرضى بالدون، ولا يقنع بالدون إلا من كان دونا، فيا عبداللهِ: لا ترضَ بالذل والدُّون، ولا تَغُضَّ الجفونَ على الهُون، ولا تركَنْ عندَ الأذى والقذى إلى السكون، وحلِّق نحوَ العُلا وصعِّد، وادرس العلمَ وقيِّد، واصدَحْ في مَيْدان العز وغرِّدْ، ولا تكسلنك المكاسلُ، ولا تيأسنَّ، ولا تقنطنَّ، فهذه تباشيرُ الصباح فاستَفِقْ، وهذه تعاشيبُ الربيع فاستبِقْ، وهذه الغبوقة دونكَ فاغتبِقْ، وابسط إلى معاهد الشرف كفًّا وذراعًا، ومدَّ إلى ذُرى الفضائل باعًا، وَزِنْ مكاييلَ المكارم صاعًا وصاعًا، وبالهمة العلياء ترقى إلى العلا، ومن كان أرقى همة كان أظهرَا، ولم يتأخر من أراد تقدُّمًا ولم يتقدم من أراد تأخُّرًا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك