خطبة المسجد النبوي – إصلاح ذات البين
- من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين فَصْلُ الخصوماتِ الثائرةِ وقطعُ المنازَعاتِ الشاجرةِ وتأليفُ القلوبِ المتنافرةِ وإصلاحُ ذاتِ البينِ
- جات الرخصة الشرعيَّة في أن يقول الرجل في الإصلاح بين المتخاصمين ما لم يسمعه من الذكر الجميل والقول الحسن ليستل به من قلب أخيه السخيمة والضغينة
- إصلاحُ ذاتِ البينِ خصلةٌ جليلةٌ وفضيلةٌ عظيمةٌ تُستَلُّ بها الضغائنُ والأحقادُ والحزازاتُ وتُطفأ بها نيرانُ العداواتِ والخصوماتِ والمنازَعاتِ
جاءت خطبة المسجد النبوي لهذا الأسبوع بتاريخ 19 صفر 1446 هـ الموافق 23 أغسطس 2024 م بعنوان (إصلاح ذات البين)، ألقاها إمام المسجد النبوي فضيلة الشيخ صلاح بن محمد البدير، الذي تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله وشكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
إصلاح ذات البين
قال إمام الحرم: من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين، فَصْلُ الخصوماتِ الثائرةِ، وقطعُ المنازَعاتِ الشاجرةِ، وتأليفُ القلوبِ المتنافرةِ، وإصلاحُ ذاتِ البينِ؛ لأنَّ فسادَ ذاتِ البينِ ثُلمةٌ في الدينِ، وفتنةٌ بينَ المسلمينَ، قال ابن الأعلى الشيباني في وصيته:فانفوا الضغائن والتخاذل عنكم
عند المغيب وفي حضور المشهدِ
بصلاح ذات البين طول بقائكم
إن مد في عمري وإن لم يمددِ
وتكون أيديكم معًا في عونكم
ليس اليدان لذي التعاون كاليدِ
فضيلة إصلاح ذات البين
ثم وصف إصلاحُ ذاتِ البينِ بأنه خصلةٌ جليلةٌ وفضيلةٌ عظيمةٌ، تُستَلُّ بها الضغائنُ والأحقادُ والحزازاتُ، وتُطفأ بها نيرانُ العداواتِ والخصوماتِ والمنازَعاتِ، وقد أمَر اللهُ -تعالى- عبادَه بالمسارَعة إلى قطع المنازَعة، والإصلاحِ بينِ المتخاصمينِ، والتوفيقِ بين المتنازعينِ، فمتى شجر بين الناس اختلاف أو مالت النفوس إلى التشاح، أو أشرعت الأيدي الرماح، وجبت المسارعة إلى إصلاح ذات بينهم، قال الله -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(الْأَنْفَالِ:1)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يصلحوا ذات بينهم»، وقال -جل في علاه-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}(الْحُجُرَاتِ: 9)، وقال -جل جلاله-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الْحُجُرَاتِ:10)، وقال جل وعز في الزوجين: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}(النِّسَاءِ:128).فساد ذات البين الحالقة
ثم بين فضيلته بأن إصلاح ذات البين من أجلِّ الطاعات وأحسن الحسنات، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ»(أخرجه أحمد وأبو داود).إن المكارم كلها لو حصلت
رجعت بجملتها إلى شيئينِ
تعظيم أمر الله -جل جلاله-
والسعي في إصلاح ذات البينِ
ونُقِلَ عن بعض السلف أنهم قالوا: «من أراد فضل العابدين، فليصلح بين الناس، ولا يوقع بينَهم العداوةَ والبغضاءَ»، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، قَالَ: تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» مُتفَق عليه، ومعنى: «تعدل بين الاثنين»؛ أي: تصلح بينهما بالعدل.الصلح بين المتخاصمين سنة نبوية
ثم وضح إمام المسجد النبوي بأن المصلحين يسعون بالإصلاح بين المتخاصمين، ويحرصون على قطع الخلاف، وحسم دواعي الفُرْقة، فإذا نشب بين اثنين مهاجرة وخلاف وشجار، تناهضوا في رفعه وإزاحته، وركبوا الصعب والذلول مشيًا بالصلح، وبثا للسفراء، وبعثا للوجهاء، إلى أن يحل الوفاق بدل الشقاق، والتقارب بدل التحارب، والتناصر بدل التناحر، والتآزر بدل التشاجر، قال جل وعز: {لَا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(النِّسَاءِ: 114)، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: «أنَّ نَاسا مِنْ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ كانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ إلَيْهِمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أُنَاسٍ مِنْ أصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ» مُتفَق عليه، وعند البخاري: «أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ».التمادي في الخلاف والشحناء
ثم استطرد فضيلته قائلا: في الصُّلح رعاية الأُخُوَّة، وصيانة العِرْض، ودوام السَّكينة، ونزول التوفيق والبركة، وخيرات عظيمة، وبركات كثيرة لا تحصى، والصلح العادل الذي تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف خير من الفُرْقة، فإن التمادي في الخلاف والشحناء والمباغضة، وقوع في قواعد الشر الجامعة لكل الخذلان والهوان والخسران، وهل جنى المتشاجرون المتنافرون المتناحرون من دوام التصارم والتطاحن إلا سوء الأحدوثة والسمعة، وتكدر العيش الصفي، وتعثر النوم الهني، وتعب الأجساد، وشماتة الحساد، وتقشع الراحة، حتى تضيق عليهم الفسيحة الوسيعة.إلام الخلف بينكم إلام
وهذي الضجة الكبرى علامَ
وفيما يكيد بعضكم لبعض
وتبدون العداوة والخصام
وصية نافعة
تغافلوا عن الزلات، ولا تستقصوا الهفواتِ، وكونوا في كلِّ أوانٍ إخوانًا متحابينَ بجلال الله -تعالى-، متواصلينَ في ذات الله، متعاونينَ على البر والتقوى، نابذينَ للفُرقة والخلاف والأهواء، متمسكينَ بالجماعة والأُلفة والمحبة والإخاء.خطورة الخلاف على البيت المسلم
كم بيت كاد الخلاف أن يُضَعضِع أركانَه؟! ويهدم بنيانه، لولا إشفاق مصلح، ورحمة ناصح، وعطف محب رآب، وكم صفيين، أو شقيقين، أو قريبين، أو جارين كادت القطيعة والفتنة أن تقع بينهما، لولا سفارة مصلح، وشفاعة وجيه، أبقت ما بينهما من المودَّة، وأدامت ما بينهما من المحبة، وكم حرب كادت أن تشتعل بين شريكين في تجارة، أو زارعة، أو صناعة، أو مهنة، لولا حكمة جامعة، وسداد رأي، وحسن مشورة، ولسان نصح، ومبادرة إصلاح، أطفأت الفتنة، وأخمدت نار الخلاف.ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس
ومتى استعان المصلح بمولاه، وأصلح قصده، وأخلص لله فعله، وتوخَّى الزمان المناسب، والمكان الملائم، والكلام السهل المقنع، وقع سعيه نافعًا، كنفع الغيث للأرض، وقد جات الرخصة الشرعيَّة في أن يقول الرجل في الإصلاح بين المتخاصمين، ما لم يسمعه من الذكر الجميل والقول الحسن؛ ليستل به من قلب أخيه السخيمة والضغينة، عن أم كلثوم بنت عقبة -رضي الله عنها- أنَّها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا أو يقول خيرًا» مُتفَق عليه، قال النوويّ: «معناه: ليس الكذاب المذموم الذي يصلح بين الناس، بل هذا محسن».
لاتوجد تعليقات