رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 27 يونيو، 2021 0 تعليق

خطبة المسجد النبوي – {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا}

 

جاءت خطبة الحرم المدني بتاريخ 1 من ذي القعدة 1442هـ - الموافق 11/6/2021م للشيخ علي بن عبدالرحمن الحذيفي متحدثة عن خلق الله -تبارك وتعالى- للكون وأنه لم يخلقه عبثًا، وأن المؤمنين جعلوا هذا الكون زمانًا ومكانًا للطاعات، وتحقيق تقوى الله -عز وجل- بالتقرب إليه بما يرضيه، وهجر ما يغضبه ويؤذيه.

     وأكد الشيخ الحذيفي على ضرورة أن يكون المسلم ممن سَلَك سبل النجاة، ولا يكون ممن سَلَك سبل العصاة، قال الله -تعالى-: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}. وقال -تعالى-: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}.

تسخير الله الكون للمخلوقين

     ثم بين الشيخ الحذيفي أن الله خلق هذا الكون، وأودع فيه كل ما يحتاجه المكلفون من أرزاق ومتاع وزينة ومال ودواب وغير ذلك، وذلّل هذا الكون وسخره كله لمصالح الخلق ومنافعهم وقيام حياتهم إلى أجل مسمى عند الله لا يعدوه، قال -سبحانه-: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}. وقال -تعالى-: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى}. وقال -سبحانه- : {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. وقال -عز وجل-: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. وقال -سبحانه- :{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ}. وقال -عز وجل-: «وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها».

لم يخلق الله هذا الكون عبثا

     وإذ قد خلق الله هذا الكون في كماله وجماله وفي وفائه التام بمقومات الحياة كلها لكل من على الأرض، وفي كثرة منافعه وتنوعها، وفي تسخير الأسباب لبقاء الحياة ورقِيّها، أخبر ربنا -عز وجل- بأنه لم يخلق هذا الكون عبثا، ولم يتركه سدى، ولم يجعله مهملا. قال -سبحانه-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}. وقال -سبحانه-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}. وقال -عز وجل-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}. وقال -عز وجل-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}. وقال -عز وجل-: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}. وقال -عز وجل-: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}. وقال -عز وجل-: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}. وقال -تبارك وتعالى-: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا}.

لم يَكِل الله الخلق إلى غيره

     ولم يَكِل الله الخلق إلى غيره، بل خلق هذا الكون المشاهد للحق وهو التوحيد والطاعات كلها، والصلاح والإصلاح للأرض، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}. وقال -تبارك وتعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.

إصلاح الأرض بالطاعات

     وقد أرسل الله الرسل وآخرهم سيدهم محمد - صلى الله عليه وسلم - لإصلاح الأرض بالطاعات، وتطهيرها من الشرك والموبقات، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. وقال -سبحانه-: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} أي بعد إصلاح الرسل لها بالكتب المُنَزّلة. وقد أمر الله -سبحانه- المرسلين -عليهم الصلاة والسلام- بالتمتع بما أحل الله في الحياة من الطيبات، وأن يداوموا على الطاعات التي لا تصلح الأرض إلا بها. قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وأتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- المؤمنون المأمورون بالاقتداء بهم في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}. وقال -سبحانه-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، فالرسل -عليهم الصلاة والسلام- وأتباعهم المؤمنون جعلوا هذا الكون مكانًا وزمانًا للصالحات والإصلاح؛ ففازوا بالخيرات والجنات. والأعمال الصالحات تعود كلها إلى نفع النفس ونفع الخلق بالقيام بأركان الإسلام، وبقية الطاعات تابعة لهذه الأركان.

لا تحقرن من المعروف شيئًا

     ثم أكد الشيخ الحذيفي ضرورة ألا يحقر المسلم من الطاعات شيئا، فلا تدري أي عمل تدخل به الجنة، وتنجو به من النار. عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تحقرن من المعروف شيئا وإن من المعروف أن تلق أخاك بوجه طلق» رواه البخاري ومسلم.

     وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخّره فشكر الله له فغفر له» رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم يطوف ببئر أدلع لسانه من العطش فنزعت له خفها وملأته ماءً فشرب فغُفِرَ لها» رواه البخاري ومسلم. قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}.

الكون زمان ومكان للطاعات

     فالمؤمنون اتخذوا هذا الكون زمانا ومكانا للطاعات، وأما من لا يؤمن بالله واليوم الآخر وكفر بالله فاتخذ هذا الكون زمانا ومكانا للشهوات المحرمات، والمتع الزائلة، واقترف السيئات، وأعظم السيئات الشرك بالله بأن يتخذ العبد مخلوقا يدعوه ويرجوه ويتوكل عليه ويستعين به ويستغيث به، ويرفع إليه المطالب والحاجات، ويرغب إليه في الرزق والنصر، ويهتف به في كشف الشدائد والكروبات، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله -سبحانه- إلا بالتوبة، قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}. وقال -تعالى-: {نَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}. وعن أبي الدرداء مرفوعا قال الله -تعالى-: «إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلُق ويُعبد غيري، وأرزُق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرّهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بالنِّعم ويتبغّضون إليّ بالمعاصي» رواه الطبراني في مسند الشاميين، والحاكم في التاريخ، والبيهقي في الشُعَب.

كبائر الذنوب

     وتأتي كبائر الذنوب في عِظَم الإجرام بعد الشرك بالله بحسب مفسدة الذنب، وكل معصية ظَلم بها العبد نفسه بينه وبين الله وتاب منها غفرها الله له، أما المظالم بين العباد فلا يغفرها الله حتى يُعطي المظلوم حقه يوم لا درهم ولا دينار وإنما هي الحسنات، يُعطى المظلوم من حسنات من ظلمه فإن فنيت حسناته أُخِذ من سيئات المظلوم فطُرِحت على من ظَلَم ثم طُرِحَ في النار. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء منه فليُحلله منه اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أُخِذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» رواه مسلم والترمذي. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء التي نطحتها» رواه مسلم.

     ولو سَلِم أحدٌ من استيفاء الحقوق في المظالم لسَلِم المؤمنون الأبرار من استيفاء حقوق المظالم بينهم، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَخلُص المؤمنون من النار بعد عبورهم الصراط فيُحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيُقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة، فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا» رواه البخاري.

احذروا الذنوب!

     وختم الشيخ خطبته بالتحذير من الذنوب قائلاً: إياكم والذنوب! فإنها خطيرة، إياكم والذنوب وإن كانت في أعينكم صغيرة! فإن لها من الله طالبا، عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تُطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» رواه البخاري ومسلم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم ومحقرات الذنوب! فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكنه». قال الله -تعالى-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك