خطبة المسجد الحرام – سعادة الأسرة المسلمة
- العَلاقات الزوجية لا تبنى على المشاحَّة ولا المشاحنة والصدام والخصام ورفع الصوت والتشكي والتلاوم ولكنَّها تبنى على مكارم الأخلاق والتغافل والصبر والتحمل
- حِفْظُ الفضلِ هو الذي يُحافِظ على تماسُك الأسرة ويحفظها بإذن الله من المواقف الطارئة واللحظات العصيبة
- بناءُ العلاقةِ الزوجيةِ على الفضلِ والإحسانِ وليس على المحاسَبةِ والمشاحَّةِ والتقصِّي والاستقصاء
- إذا بدرت بوادر الخلاف فتذكروا المحاسن وتغافلوا عن النقائص وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ
جاءت خطبة الحرم المكي لهذا الأسبوع بتاريخ 29 ربيع الآخر 1446 هـ الموافق 4 نوفمبر 2024م بعنوان (سعادة الأسرة المسلمة)، التي ألقاها إمام الحرم فضيلة الشيخ د/ صالح بن عبدالله بن حميد -حفظه الله-، الذي تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله وشكره على آلائه الجسام العظام فقال:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، أما آن لأهل الرقاد أن يستيقظوا، أما حان لأهل الغفلة أن يتنبهوا؟! ولذوي العقول أن يتفكَّروا؟! لقد صدَّق الموتُ الخبرَ، وأظهَر تصاريفَ الغِيَر، وكشَف صنوفَ العِبَر، برزت المخبآتُ، وظهرت المكنوناتُ، وشهدت الجوارحُ، وبُعثر ما في القبور والضرائح، فيا لَسوء منقلب الظالمين! ويا لَحسرة مصير الهالكين؛ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(غَافِرٍ: 18-19).الميثاق الغليظ
الحياةُ الأسريةُ مِنْ أوثقِ العلاقاتِ الإنسانيةِ، وأرفعِها شأنًا، ولها في دينِنا مقامٌ كريمٌ، وهي في شرعِ ربِّنا ميثاقٌ غليظٌ؛ {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}(النِّسَاءِ: 21). حياةٌ أسريةٌ يعيش فيها الزوجانِ عيشةً كريمةً، يتقاسمانِ همومَ الحياةِ في مَنْشطِها ومَكْرَهِهَا، وحلوِها ومرِّها، ولينِها وقسوتِها، وصحَّتِها ومرضِها، ويُسرِها وعُسرِها. العلاقاتُ الإنسانيةُ والعلاقاتُ الأسريةُ لا تُقاس بمواقفِ اللحظاتِ العابرةِ، ولا بالأحوال الطارئة، ولكنَّها تُقاس بالتراكمات المتتابِعة، والأحداث المتوالية، إنها عَلاقات ممتدة، لا يُنسيها حادثٌ عابرٌ، ولا يَنسِفُها موقفٌ طارئٌ. إنَّ الحياةَ بتقلُّبَاتِها وأحوالِها، تحتاج أن يسودَ فيها روحُ الفضل، وتُذكَرَ فيها جوانبُ الخيرِ والمعروفِ، فليس من العقل ولا من الحكمة، ولا من المروءة أن تُهدَم سنواتُ مودةٍ في ساعةِ غضبٍ عابرةٍ، لحظة غضب يتناسى فيها الزوجان الجوانب المشرقة، وأوقات السرور ولمسات الود والمحبة، التي عاشاها والتي يعيشانها في أغلب أيام حياتهم.ولا تنسوا الفضل بينكم
أيها المسلمون: يقول الله -عز وجل- في محكم تنزيله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(الْبَقَرَةِ: 237)، إنه توجيه كريم، وقاعدة عظيمة، وحكمة سامقة باسقة، تجري في مواطن أشمل وأعم من السياق الذي نزلت فيه؛ وهو معالجة الحالات بعد الطلاق الفضل هو أعلى درجات التعامُل؛ فهو مرتبةُ الإحسانِ، وفوقَ مرتبةِ العدلِ؛ {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(الْبَقَرَةِ: 237): في علاقاتكم كلها، في القربى، والمصاهرة، والعمل والصداقة، وفي شؤون الحياة كلها، {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(الْبَقَرَةِ: 237): توجيه لمن جمعتهم هذه العَلاقة العظيمة وهذا الميثاق الغليظ، وتذكير لهم بألا ينسى مع مرور الزمن وتقدُّم العُمر وكثرة العيال، وتعاظم المسؤوليَّات لا ينسوا الفضل الذي بناه حُسْن العِشْرة، وجميل المودَّة، ورداء الرحمة، ولطيف المعاملة منذ الأيام الأولى؛ {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(الْبَقَرَةِ: 237)؛ ليبقى الود وتحفظ الحقوق، وتتنزل الرحمة وتتصافى القلوب، إن نسيان الفضل يعني التفكك والتجافي والشقاق والتباعُد عن الأخلاق الكريمة والشِّيَم النبيلة. حِفْظُ الفضلِ هو الذي يُحافِظ على تماسُك الأسرة ويحفظها -بإذن الله- من المواقف الطارئة، واللحظات العصيبة، نسيان الفضل سلوك مشين، إن انتشر في المجتمع أفسده، وإن فشا في الناس فرقهم، نسيان الفضل من ضعف الإيمان.خطورة الغضب
في ثورة الغضب يَختلطُ الحابلُ بالنابل، والحقُّ بالباطل، وكأنَّ الزوجينِ ما عاشَا سنواتٍ من المودَّة، وحُسْنِ العِشْرة، وكأنَّهما لا يجمعهما بيتٌ واحدٌ، ولا يُظِلُّهما عشٌّ واحدٌ، ولا يضمهما فراشٌ واحدٌ، ولا يدفئهما لحافٌ واحدٌ، كلُّ هذا يُصبِح بين عشية وضحاها سرابًا هباءً، فلا الزوجُ يَذكُر الحسناتِ، ولا الزوجةُ تَذكُر المعروفَ. في ساعات الغضب تنقلب الوجوهُ المبتسمة إلى وجوه كالحة، تحمل الكيد، ويعلوها الإرهاق، ويملؤها التعب والأسى، ويكسوها التحايلُ المكروهُ، والإيقاعُ المفسِدُ، ولو ذهبتَ تبحث عن المسوِّغات لَهَالَكَ ما تسمعُ، مسوغاتٌ لا يَقبَلُها عقلٌ فضلًا أن يقبلها دِينٌ أو خُلُقٌ كريمٌ. قد غيب ذلك كله نزوات وهفوات، فلا دُنيا أقاموا ولا خُلُقًا كريمًا سلكوا، ولا عقلًا رصينًا حكَّموا، نزوات وهفوات تحل بها الجفوة محل المودَّة، والبُعْد مكان القرب، والقسوة بديل الحب، والعنف عوض الرفق، نزوات يكون فيها تصيد الأخطاء، وتلمس العيوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أسر تتشتت، وأطفال تضيع، وإهمال يسود. في حالات الغضب الأسرار تعلن، والمستوى يكشف، والحرمات تنتهك، والتهم تقذف.الحذر من الدعوات المغرضة التي تدعو للتمرد
احذروا الدعوات المغرضة، التي تحرض الزوجين على التمرد وعلى التنمُّر، وتنفخ في النقائص والسلبيات، التي هي مِنْ طبعِ البشرِ، والتي لا يَسلَم منها أحدٌ كائنًا مَنْ كان، العَلاقات الزوجية لا تبنى على المشاحَّة، ولا المشاحنة والصدام والخصام، ورفع الصوت، والتشكي، والتلاوم، ولكنَّها تبنى على مكارم الأخلاق والتغافل والصبر والتحمل، «لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةُ؛ إِنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ»، التدقيق في تفاصيل الحياة الأُسريَّة ينغص الحياة، ويكدر الأسرة، ويجعل المجالس مرة، والمعيشة نكدة.عند بوادر الخلاف تذكر المحاسن
الزموا حفظ كرامة البيوت، وصون العَلاقة الزوجية، والتلطف والتماس أسباب الرضا، واحذروا التجسس والتحسس وتتبع الأخطاء، وتلمس المعايب، واعلموا أن الاعتراف بالفضل يجمع القلوب، والفجور في الخصومة يمزق العَلاقات. وإذا بدرت بوادر الخلاف فتذكروا المحاسن، وتغافلوا عن النقائص؛ {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(الْبَقَرَةِ: 237)، وأقرب الزوجين للتقوى هو الذي يعفو ويسامح، ولا ينسى مودة أهله، وحسن عشرتهم، وما استقصى كريم قط، والتغافل يطفئ الشرور، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}(النِّسَاءِ: 19).على الفضل والإحسان تقوم العلاقة الزوجية
الزواج رابطة، وعَقْد، ومودة، ورحمة، وليس انفلاتًا وضياعًا، وحريةً زائفةً، بناءُ العلاقةِ الزوجيةِ على الفضلِ والإحسانِ، وليس على المحاسَبةِ، والمشاحَّةِ والتقصِّي والاستقصاء، يقول يحيى بن معاذ -رحمه الله-: «اصحَبُوا الناسَ بالفضلِ لا بالعدلِ، فمعَ العدلِ يكون الاستقصاءُ، ومع الفضلِ يكون الاستبقاءُ»، لا تستقصوا جميعَ الحقوق، بل اجعلوا للفضل مَوضِعًا، ويسِّروا ولا تُعسِّروا، تسامحوا ولا تُدقِّقوا، والتغافل لا يُحسنه إلا الراغبون في السعادة، وكثرة العتاب تفرق الأصحاب، العشرة بالمعروف هي النظر إلى المحاسن والاحتفاء بها، والتغاضي عن المساوئ وسترها. تفاهَمَا بأدب وحوار، وبنظر ثاقب للعواقب، فخلفكما ذرية ضِعاف خافوا عليهم، واتقوا الله، وقولوا قولًا سديدًا.
لاتوجد تعليقات