خطبة المسجد الحرام – الإسلام ديـن الإخـاء
- إنَّ النّسيج الاجتماعيّ المُتراص الفريد يحتاج إلى صَقْل العَلاقات الاجتماعيَّة والتحلي بمحاسن الآداب المرعيَّة
- ما أحوجَ الأمةَ الإسلاميةَ إلى تفعيلِ فنِّ التعاملاتِ الاجتماعيةِ والعلاقاتِ الإنسانيةِ ليتحقَّقَ لها الخيرُ في الدنيا والآخرة
- وقوعُ الاختلافِ بينَ الناسِ أمرٌ لا بدَّ منه لتفاوُتِ إرادتهم وأفهامهم وقُوى إدراكهم ولكنَّ المذمومَ بَغْيُ بعضِهم على بعضٍ
- إن الأمة تعيش منعطفًا تاريخيًّا خطيرًا ومرحلةً حرجةً من أشد مراحل تاريخها فمن أهم موجبات الوحدة التغاضي والتغافلُ
جاءت خطبة الحرم المكي لهذا الأسبوع بتاريخ 20 جمادى الأولى 1446 هـ الموافق 22 نوفمبر 2024 م بعنوان (الإسلام دين الإخاء)، التي ألقاها إمام وخطيب الحرم المكي فضيلة الشيخ د/ عبدالرحمن السديس -حفظه الله-؛ حيث تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله -عز وجل- فقال: خير ما يُوصى به بُكَرًا وآصالًا، خضوعًا وامتثالًا، تقوى الله -تبارك وتعالى-؛ {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}(النِّسَاءِ: 131).
بشرى لمن زُوِّدَ التقوى لمنقلبٍ حياة مدخر فيه ومضطلع
العلاقات الاجتماعية
لقد أرسى الإسلامُ أسسَ وقواعدَ الأخوةِ والمحبةِ، والتواصلِ والمودَّةِ، وفي غِمارِ الحياةِ ونوائبِها، ومَشاقِّ الدُّنيا ومَبَاهِضها، وفي عالَمٍ مُصْطَخِبٍ بالمشكلاتِ والخُصُوماتِ، والمُتَغيراتِ والنزاعاتِ، وفي عصرٍ غلبَتْ فيه المادياتُ وفَشَتْ فيه المصالحُ والأنانياتُ، وحيثُ إنَّ الإنسان مَدَنِيٌّ بِطَبْعِه، واجتماعِيٌ بفطرته، تَبْرُزُ قَضِيَّةٌ سَنِيَّةٌ، مِنْ لوازمِ وضرُورَاتِ الحياة الإنسانيَّة، تلكم -يا رعاكم الله- هي العَلاقات الاجتماعيَّة، ومَا تقتضِيه مِنَ الركائز والروابط البشريَّة، والتفاعل البنَّاء لِتَرْقِية الخُلُق والسلوك، وتزكية النَّفْس والأروح؛ كي تسْموَ بها إلى لُبَاب المشاعر الرَّقيقة، وصفوة التفاهم الهَتَّان، وقُنَّة الاحترام الفَيْنان، الذي يُحَقِّقُ أَسْمَى معاني العَلاقات الإيجابيَّة، المُتكافلة المتراحِمة، وأنبل وشائجها المتعاظم المُتعَاطِفة المُتَلاحِمة، التي تَتَرَاءى في الكُرَب بِلَحْظ الفؤاد، وتَتَنَاجَى في النُّوَبِ بِلَفْظِ السُلُوِّ والوِدَاد.الاحترام المتبادل
لا تزال الأيام تتقلَّب ببني الإنسان حتى ساقَتْه إلى عَصْرٍ سَحقَتْه المَادّةُ، وأَفْنَتْهُ الكَزَازةُ الهَادَّةُ، ونَدَرَ في العالَم التراحم والإشفاق، والتَّبَارُر والإرفاق، وفَقَدَ -تَبَعًا لِذَلك- أَمْنَه واسْتِقْرَارَه، ومَعْنَى الحياة فيه، وفَحْوى الإحسان الذي يُنْجِيه، ولا يخفى على شريفِ علمِكم -يا رعاكم الله- أَنَّ مُخالَطة النَّاس تُعَرِّض المَرْء -لا مَحَالة- لخطأ سَوْرَتِهم، وخَطَل جهالتهم؛ لذا كان ولا بدَّ من وقفة جادَّة؛ لتَعْزيز الروابط الاجتماعيَّة، فالشعارات البرَّاقة، لا تَكشِفُ كَرْبًا، ولا تبدِّدُ صَعْبًا، ولا تُغيثُ أمَّةً مَرْزُوءةً ولا شعْبًا، ما لم تُتَوَّج بالمواقف والأفعال، يَتَسَنَّمُ ذِرْوَةَ سَنَامِ ذلك: الاحترامُ المتبادَلُ؛ فهو أساسُ العلاقاتِ الاجتماعيةِ الناجحةِ، ويشمل ذلك التقديرَ الشخصيَّ، وتقديرَ واحترامَ المشاعر والآراء، والتفهمَ لمواقف الآخَرين، فإن ذلك يؤصِّل ويُسهم في تقوية الروابط، وتعزيز الأواصر، وقد قال الله -عز وجل-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الْحُجُرَاتِ: 10).التغاضي والتغافل
إذا ساغ عقلًا قبولُ القناعات، واستمراءُ الآراء والحريات، فغيرُ سائغٍ -إطلاقًا- أن تتحوَّل القناعاتُ إلى صراعات، والحرياتُ إلى فتنٍ وأزماتٍ، لاسيما والأمةُ تعيش منعطفًا تاريخيًّا خطيرًا، ومرحلةً حرجةً من أشد مراحل تاريخها، فمن أهم موجبات الوحدة، ومقتضياتِ التضامُن والاعتصام، التغاضي والتغافلُ، والصبرُ والتسامحُ، وحُسْنُ الظنِّ والتماسُ الأعذار، وقد قيل: «إن تسعة أعشار العقل في التغاضي والتغافل»، وقال عبدالله بن المبارك -رحمه الله-: «المؤمن يلتمس المعاذير، والمنافق يتتبع الزلات».الاعتذار والتسامح
ماذا لو عاد معتذرًا، وكنت على الدمح مقتدرًا، فكن للعفو مبتدرًا، وقال -تعالى-: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(آلِ عِمْرَانَ: 134)، وقال سبحانه: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}(النُّورِ: 22)، وقال -جلَّ شأنُه-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(الْأَعْرَافِ: 199)، ويتبَع ذلك من جميل الوُدِّ والتعاملِ الحسنِ عدمُ الإكثارِ مِنَ اللَّوْمِ والعِتَابِ، والتَّشَكِّي في الحديثِ والخِطَاب؛ فإنَّها تَقْطَع الأواصرَ بغير حِجَاب، وليست تدوم مودةٌ وعتابٌ؛ فقلوب أهل الإيمان دمَّاحة، ونفوسهم لِلْوُدِّ لَمَّاحة.تَسامَحْ ولا تستوفِ حقَّكَ كلَّه
وأبقِ، فَلَمْ يستوفِ قطُّ كريمُ
وعَاشِرْ بمعروفٍ وسَامِحْ مَنِ اعْتَدَى
وَدَافِعْ وَلَكِنْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
الإسلام وتوجيه السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية
إنَّ النّسيج الاجتماعيّ المُتراص الفريد، يحتاج إلى صَقْل العَلاقات الاجتماعيَّة، والتحلي بمحاسن الآداب المرعيَّة، ومعالي القِيَم الخُلقية، والمُداراة الإنسانيَّة، وجَبْر الخواطر، ومراعاة المشاعر، وعِفَّة اللسان، وسلامة الصدور، ولقد تميَّز الإسلامُ بنظـامٍ اجتماعيٍّ وإنسانيٍّ فريدٍ، سبَـق بذلك نُظُمَ البَشَر كلَّها؛ ذلك لأنَّ العلاقاتِ الاجتماعيةَ في هذا الدين، مُنبثقـةٌ من جوهر العقيدة الصافية، وإن مما تتميز به المجتمعات المسلمة أن للدين الإسلامي أهميةً مركزيةً في توجيه السلوك الفرديّ والعَلاقات الاجتماعيَّة، وهو مصدرُ قِيَمِهَا الإنسانيةِ والاجتماعيةِ، ومقياسُ مُثلها العُليا، والإسلام ليس قاصرًا على الشؤون الاعتقادية والتعبُّدية فحسبُ، بل هو نظامٌ شاملٌ للحياة، يُمِدُّها بمبادئه وأصولِه التشريعيةِ في مختلف المجالات، يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قِلَّة الأدب» انتهى كلامه -رحمه الله.وسائل التواصل والشائعات
إنكَ لواجدٌ في وسائل التواصُل الاجتماعيّ العجبَ العُجَابَ، مِمَّا يُفسد العلاقاتِ، ويُقَطِّع حِبَالَ الوُدِّ في المجتمعات، مِنَ الطعون في دين الناس وأعراضِهم وعقولِهم وأموالِهم، فيتلقَّفُها الدَّهْمَاءُ، وتَلُوكُهَا الرُّوَيْبِضَةُ، في نَشْرٍ للشائعاتِ وترويجٍ للأراجيفِ والافتراءاتِ، ممَّا يجب معه الحذرُ في التعامُل مع هذه المنصَّات المنتحَلة، والمواقع المزيَّفة، التي تَكثُر فيها الغثائيةُ، ومحتوى الغوغائية.القيم الإسلامية
إبان المحن والملمات، والضوائق والكربات، جاء الإسلام رائدًا للتَّراحم والتعاطف، بل هو الذي نمَّى ذيَّاك الخُلُقَ في الخافِقَين وأصَّلَه، وحضَّ عليه وفَصَّلَه، قال -تعالى-: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(الْحَجِّ: 77)، وتلكم الخلالُ الرَّحيمةُ، والشِّيَمُ النبيلةُ الكريمةُ، التي عَنَّتِ العالمَ إدْراكُها، لَهِيَ الأملُ الذي تَرْمُقُه الأممُ الجهيدةُ والشُّعوبُ، وتَهْفُو لها أبَرُّ القلوب؛ لذا يجبُ تَعْزيزُ قِيَمنَا الرَّبانية الومَّاضة؛ كالرحمة والعَدْل والصِّدق والوفاء، والبِرِّ والرِّفقِ والصَّفاءِ، والأمَانةِ والإحسانِ والإخاءِ، وسِوَاها مِن كرائم الشِّيم الغرَّاء، والشمائل الفيحاء، التي تُعَدُّ مصابيحَ للإنسان تُضيءُ دربَه، وهي صِمَامُ أمنٍ وأمانٍ لصاحبها من الانحلال الأخلاقي، وحياة الفوضى والعبث والسقوط في مهاوي الضلال وجَلْب التعاسة والشقاء للأنفس والأهل والمجتمعات، خاصةً بين الرُّعاة والرعية، والعلماء والعامَّة، وفي حلائب العلمِ، وفي ساحات المعرفة، في مراعاةٍ لأدبِ الخِلافِ، والبُّعدِ عن التراشقِ بالكلمات، والتلاسُنِ بالعبارات، وتضخيمِ الهِنَاتِ، فضلًا عن اتهام النِّيَّات، وكَيْلِ الاتهاماتِ، والتصنيفاتِ.التعامل مع الوالدين والجار
من القم الإسلامية في التعامل مع الوالدين والأقارب والجيران، قال -تعالى-: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}(الْإِسْرَاءِ:23)، وقال جلَّ شأنُه: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}(النِّسَاءِ:36). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنَّه سيورثه»(مُتفَق عليه)، وكذا بين الزملاء في بيئة العمل والأقران.العلاقات بين الزوجين
في مجال العَلاقات الزوجية، أعلَى الإسلامُ قيمَ الاحترامِ والاهتمامِ، ومتى عَلِمَ الزوجانِ الحقوقَ والواجباتِ زانتِ العلاقاتُ، ونَعِمَا معًا بالسعادة الزوجية، والهناءة القلبية؛ لذا أوصى اللهُ -جلَّ وعلَا- الأزواجَ بقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(النِّسَاءِ:19)، وأوصى نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - الزوجاتِ بقوله: «فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ»(خرَّجَه الإمامُ أحمدُ في المسنَدِ)، فكيف تُقَام حياةٌ أو يُؤسَّس بيتٌ أو أسرة، وسطَ الخلافات الحادَّة، والمناقَشات والمُحَادَّة؟، وأنَّى يَهنأُ أبناءُ الأسرة بالمحبَّة، وينعمون بالمودة في جوٍّ يغلُبُ عليه التنازعُ والشِّقَاقُ والتناحرُ وعدمُ الوِفَاق، وهل تستقيمُ حياةٌ بغيرِ المَوَدَّةِ والرَّحمةِ؟، وكلُّها معاركُ وهميةٌ خاسرةٌ، الخاسرُ فيها الإنسانُ، والرابحُ فيها الشيطانُ، ألَا ما أحوجَ الأمةَ الإسلاميةَ إلى تفعيلِ فنِّ التعاملاتِ الاجتماعيةِ، والعلاقاتِ الإنسانيةِ؛ ليتحقَّقَ لها الخيرُ في الدنيا والآخرة، والله -عز وجل- يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الْحُجُرَاتِ: 13).الاختلاف أمر فطري
وقوعُ الاختلافِ بينَ الناسِ أمرٌ لا بدَّ منه؛ لتفاوُتِ إرادتهم وأفهامهم، وقُوى إدراكهم، ولكنَّ المذمومَ بَغْيُ بعضِهم على بعضٍ، فالاختلافُ أمرٌ فطريٌّ؛ {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}(هُودٍ: 118-119)، أمَّا الخِلاف والشِّقاق، والتخاصم والفِراق، فهو المنهيٌّ عنه بنصوص في شريعتنا الغرَّاء، يقول -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا في السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(الْبَقَرَةِ: 208)
لاتوجد تعليقات