خطبة المسجد الحرام – اغتنام الأعمار
- الله جل وعلا لعلمه بطبيعة عبادِه ورغبتهم في الحياة جعَل لهم أسبابًا لإطالة الأعمار ومدّ الآجال منها الدعاء وأعمال البِرّ وصلة الأرحام
- من أعظم أعمال البر أن يترك العبد خلفه ذرية صالحة تكون بمثابة عمر ثان له بعد فراق هذه الدنيا تدعو له بعد موته فيكتب له أجرها
- مَنْ بلَغ الأربعينَ فقد أتمَّ اللهُ عليه نعمة العقل والإيمان والإدراك والاتزان وأخذ من هذه الدنيا بحظ وفير فاستحق الإكثار من التوبة والتذكير
- العمر من نعم الله العظمى ومننه الكبرى التي لا يعرف قيمتَها إلا الموفَّقون الأخيار ولا يقدرها حق قدرها إلا الملهمون الأبرار
كانت خطبة الحرم المكي لهذا الأسبوع بتاريخ 27 جمادى الأولى 1446 هـ الموافق 29 نوفمبر 2024 م بعنوان (اغتنام الأعمار)، وقد ألقاها إمام وخطيب الحرم المكي فضيلة الشيخ د/ بندر بليلة -حفظه الله-، حيث تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله -عز وجل- ومراقبته -سبحانه- بالعشي والإبكار ثم شرع في خطبته فقال:
طوبى لمن شغل وقته بالطاعة
تزوَّدوا ليوم القرار، فالأيام تمضي والأعمار في انحسار، ثم اعلموا أنكم عن دنياكم هذه راحلون، ولدُورها وقصورها مغادرون، وعن ملذاتها وشهواتها مسؤولون محاسبون، وعن كل صغيرة وكبيرة مؤاخذون، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الْكَهْفِ: 49)، فَطُوبَى لمن شغلوا أوقاتهم بالطاعات، وعمَّرُوا أيامَهم بالقربات، يجدونها أعظمَ ما تكون أجرًا وثوابًا عند رب الأرض والسماوات. عن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن رجلًا قال: يا رسول الله: أيُّ الناس خير؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ طال عمُرُه وحسن عمله، قال: فأي الناس شرٌّ؟ قال: مَنْ طال عمرُه وساء عملُه»(أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه وصححه). والإنسان بكل يوم يمضي إنما هو بذلك يقترب إلى أجله، ويدنو من آخرته، فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنَّه قال: «ابن آدم، إنما أنت أيام، فكلما ذهب يوم ذهب بعضك، ابن آدم، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمك»(أخرجه ابنُ أبي الدنيا في كتاب الزهد).حساب النفس سبب للنجاة
ثم تابع -حفظه الله-، بأن السعيد مَنْ راقَب نفسَه وحاسَبَها، وأرغمَها على اغتنام الأوقات وقصرها، عن شداد بن أوس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الكيِّسُ مَنْ دان نفسَه، وَعَمِلَ لِمَا بعد الموت، والعاجز مَنْ أتبَع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأماني»(أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه وحسَّنَه).العمر نعمة
وقد أوضح إمام الحرم بأن العمر من نعم الله العظمى، ومننه الكبرى، التي لا يعرف قيمتَها إلا الموفَّقون الأخيار، ولا يقدرها حق قدرها إلا الملهمون الأبرار، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (أخرجه البخاري)، والناس في هذه الدنيا صنفان: صنف أدرك حقيقة وجوده في هذه الحياة، والغاية التي من أجلها خلق، لعبادة الله وحدَه لا شريكَ له، فجاهد نفسه، وحدد هدفه، واستقبل وجهته، التي توصله إلى مرضاة الله، وصنف آخر مأفون مفتون، محروم مغبون، يجري خلف شهواته، ويلهث وراء ملذاته، نسي الله فأنساه نفسه، فعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»(أخرجه مسلم). وهو من أعظم ما سيُسأل عنه العبد يوم القيامة، عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا وَضَعَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ»(أخرجه الدارمي في مسنده، والترمذي في جامعه وصححه).بلوغ الأربعين يستوجب التوبة والتذكير
ثم نبه الشيخ الدكتور بندر أن مَنْ بلَغ الأربعينَ فقد أتمَّ اللهُ عليه نعمة العقل والإيمان، والإدراك والاتزان، وأخذ من هذه الدنيا بحظ وفير، فاستحق الإكثار من التوبة والتذكير، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(الْأَحْقَافِ: 15)، وجعل الله -عز وجل- الشيب رسولَ الموتِ ونذيرَه فقال: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}(فَاطِرٍ:37)، قال أهل العلم بالتفسير: «النذير: الشيب»، فكيف بمن جاوز الأربعين حتى بلغ الستين، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أعذَر اللهُ إلى امرئ أخَّر أجَلَه حتى بلَغ ستينَ سنةً»(أخرجه البخاري)، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أعذر الله إلى امرئ»، أي: سلَب اللهُ عذَر ذلك الإنسانِ، فلم يبقَ له عذرٌ يعتذِرُ به، إذ بلَّغَه الستينَ، وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل يعظه: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»(أخرجه الحاكم في المستدرك).أسباب ضياع الأعمار
وقد حذر فضيلته قائلا: إنَّ مِنْ أعظمِ أسبابِ ضياعِ العمرِ في غير ما يعود على العبد بفائدة في دينه ودنياه، الجهل بقيمة الزمن، وصحبة البطَّالين، وطول الأمل، والغفلة، وضعف الهمة، والتسويف، والانسياق وراء وسائل التواصُل في غير منفعة ترجى، فإذا جاء الأجل وبلغ النهاية عرف حينها قيمة الحياة، وكم ضيع من الأوقات، وندم على ما فات، وتمنى العودة ولكن هيهات هيهات، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الْمُؤْمِنَونَ: 99-100)، فالله الله عباد الله، في تدارك ما فات، بالتوبة والادكار، والأوبة والاستغفار، فقد وعد الله -جل وعلا- عباده المؤمنين التائبين المخبتين بتبديل سيئاتهم حسنات، وخطيئاتهم قُرُبات، لمن تاب وأناب، وصدق توبته بالعمل الصالح وأناب، {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الْفُرْقَانِ: 70).أسباب إطالة الأعمار
وقد أكد الشيخ بليلة أن الله -جل وعلا- لعلمه بجِبِلَّة عبادِه، ورغبتهم في الحياة جعَل لهم أسبابًا لإطالة الأعمار، ومد الآجال، منها: الدعاء، وأعمال البِرّ، وصلة الأرحام، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر»(أخرجه الإمام أحمد)، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثَره فليصل رحمه»(مُتفَق عليه)، ولا يشكل ذلك يا عباد الله على قوله -تعالى-: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}(الْأَعْرَافِ: 34)، ولا على قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتَّفَق عليه عن الحمل في بطن أمه: «ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ»(أخرجه مسلم في صحيحه)، ذلك أن الله -جل وعلا- كتَب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وما كتبه -سبحانه- عنده إنما هو على وفق ما سبق به علمه، مما يكون من عباده من دعاء وأعمال بر وصلة رحم، التي جعلها الله في الأزل، في اللوح المحفوظ عنده سببًا لإطالة أعمارهم، ومد آجالهم، وكل ميسر لما خلق له، فعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: «قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَيُسِّرَ لَهُ»(مُتفَق عليه).الذرية الصالحة
ثم توجه إمام الحرم بالنصيحة فقال: من أعظم أعمال البر أن يترك العبد خلفه ذرية صالحة مباركة، بمثابة عمر ثان له، بعد فراق هذه الدنيا، هي من صميم عمله، تدعو له بعد موته، فيكتب له أجرها، في ميزان حسناته، لا ينقص من أجورهم شيء، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»(أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد). فاحرصوا على التربية الحسنة، والتنشئة الصالحة للأبناء والبنات، التي تقر بها العين في الحياة، وتسعد بها الروح بعد الممات.
لاتوجد تعليقات