رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 20 أكتوبر، 2020 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – سعود الشريم – إمام الحرم المكي: الخُلق الرفيع ســــمـــة المـسـلــــم

 

الخُلق الرفيع سمة المسلم الهيّن الليّن، التقي النقي، المسلم النافع، المسلم المسالم، المسلم الذي لا غِل فيه ولا حسد، ولا أشر ولا بطر، المسلم الذي يحمل في قلبه حق نفسه وحق الآخرين، المسلم الحصيف الذي لا يغيب عن وعيه حاجته وحاجة مجتمعه من التواد والتراحم لا التشاحن والتناثر، المسلم اللبيب الذي يُحسن استحضار حرمات الآخرين، والنأي بنفسه عن أن يطال أحد منهم بشر أو أذى ما قل منه أو كثر، فإن من حق المسلم على أخيه أن يكون سلما له، وعضوا فاعلا في جسد الأمة الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

     إنه المسلم الذي يُدرك أن المجتمع المتآلف لا تخترمه المشكلات، ما دام كل فرد من أفراده كافاً أذى لسانه ويده عن الآخرين، لأن الأذية ثقب في سفينة مجتمعه الماخرة، وأن تعدد الأذى بينهم فيها إنما هو تعدد في الثقوب ولا شك، وليس ثَمّة إلا غرق السفينة، ما من ذلك بد.

ما الأذى؟

     الأذى هو كل عمل أو قول من شأنه أن يُلحق ضررا بالآخر حسياً كان أو معنويا، وكلمة الأذى بهذا المعنى لفظة لا تحتمل إلا الذم لا غير، فهي لا حُسن فيها بوجه من الوجوه؛ إذ لم يأتٍ ذكرها في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا مذمومة مرذولة، وهكذا هي في أقوال السلف الصالح والحكماء ذوي الحجى، إنها كلمة تنفر من لفظها طباع الأسوياء الأنقياء، فكيف بنتيجتها وأثرها إذاً؟! وإن فؤاد السوي ليأبى أن يميل إلى الأذى؛ لأنه من طباع الأفاعي والعقارب أعاذنا الله وإياكم من ذلك. ثم إن مفهوم كف الأذى عباد الله أعمّ من أن يكون منحصرا في نفس من يصدر منه الأذى وحسب، بل إنه ليتسع معناه ليعم كل من يستطيع كف أذى الآخر عن الناس وإن كان بإزالة القذى عن الطريق، فبالحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله أدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان».

     وقد نصَّ بعض أهل العلم أنه إذا كان هذا الفضل في إزالة الأذى عن الطريق فإن إزالته عن القلوب أعظم فضلا، وكما أن الأذى يكون بالقول أو الفعل فإنه كذلكم يكون بالامتناع عن القول أو الفعل، إذا كان فيهما إحقاق حق لأحد أو إبطال باطل، لما رواه البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أفرأيت إذا كان ظالما كيف انصره؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره».

النفوس الصغيرة

     إنه لا يَمتهن الأذى إلا النفوس الصغيرة؛ لأنها لا تتقن إلا إيقاعه، وإن أشجع الناس من كان جبانا عن الأذى، وأجبن الناس من كان جريئا عليه، وإن المرء العاقل هو الذي يحتمل أذى الناس، لكنه لا يرتكبه تجاههم، ولو أن كل واحد منا استحضر أن يزن الأذى الذي يرتكبه تجاه الآخرين بالميزان نفسه الذي يزن به الأذى الذي يلقاه هو نفسه من الآخرين لانحسر الأذى بين الناس دون ريب.

ألا ويل لمن ملئت صحائفه بأذية الآخرين، ويل له ثم ويل له؛ فيوم التغابن ستُشهر صحيفة إفلاسه لينقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، فما أحوجنا جميعا أن نكون من الرابحين لا من المفلسين!

من العقل حفظ اللسان

     وإنه لمن العقل بمكان أن يحفظ المرء فكّه من أن يُطلق لسانه يهرف بما يؤذي غيره وبما يضر ولا ينفع، وأن يفك كف يده ليبسط راحته لكل مصافح مسالم، لا يبطش بها ولا يمدها إلى ما يغضب الله مولاه، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» وقد قدّم اللسان في الحديث على اليد مع أن اليد أقوى جسديا، لأن جرح اللسان له غَوْر معنوي ونفسي وأمدي يفوق جرح اليد الآني، قال شيخ الاسلام ابن تيمية: إن بعض الناس لا تراه إلا منتقدا ينسى حسنات الطوائف والأجناس، ويذكر مثالبهم مثل الذباب، يترك موضع البُرء والسلامة ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج، فيا خيبة امرئ انفض الناس من حوله هربا من سطوات لسانه ومطارق يده! و يا فوز امرئ لم يؤذِ نفسه، ولم يؤذ جاره، ولم يؤذِ قريبه، أو يجر سوءاً إلى مسلم، مستحضراً حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: «اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم». رواه الترمذي.

     ألا أن الرابح من كف لسانه عن الغيبة والنميمة، والهمز واللمز، وسلّم يده من الأذى، وطهّر قلبه ونقّاه من الغل والحسد، والتهويش والتشويش، ورمى الآخرين بما ليس فيهم، أو تتبع عوراتهم وزلاتهم بالتعيير والشماتة تارة، أو بالتهويل والتحريش تارات أخرى.

الغُر من قد ألان كفه

وفك عنه الأذى وكفه

وصار هشًّا لنا وبشا

فكف فكه وفك كفه

ألا فاتقوا الله عباد الله، وليتقِ كل واحد منا أن يكون من شرار الناس، الذين عناهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إنّ شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» رواه البخاري.

صدقة عظيمة

     اتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ثمة صدقة عظيمة تنفع المسلم وترفعه، صدقة لا تحتاج إلى مال، ولا إلى بذل جهد جسدي، ولا لفظ قولي، صدقة يستوي فيها القوي والضعيف، والغني والفقير، إنها صدقة المرء بكفّه الشر عن الآخرين. فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: «قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا، قلت: فإن لم أفعل، قال: تُعين صانعا أو تصنع لأخرق، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضَعُفت عن بعض العمل، قال: تكُفُّ شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك» متفق عليه.

الكف عن الشر

     ثم إنه لا يشك عاقل البتة، أن من ابتغاء الخير الكف عن الشر، وقد قيل كما تَدين تُدان، وقيل الجزاء من جنس العمل، فإن من آذى أخاه المسلم لحقه الأذى إن عاجلا أو آجلا، وقد قال الإمام مالك -رحمه الله-: أدركت بالمدينة أقواماً ليس لهم عيوب فعابوا الناس فصارت لهم عيوب، وأدركت بالمدينة أقواماً كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس فنُسِيَت عيوبهم.

الحذر من الإيذاء

     فالحذر الحذر عباد الله من مغبة الإيذاء؛ فإنه الطبع المهلك والعمل الماحق الذي يجلب الإثم المبين والعذاب المهين، قال الله في محكم كتابه {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك