رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 17 مارس، 2025 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – تزكية النفس

  • أَقْبَحَ أنواع الإلفِ: إِلْفُ المَعْصِيَةِ واعتيادُها والتغافُلُ عن شُؤمِها وبلائِها
  • خلَقَ اللهُ النفسَ البشريةَ وأودعهَا طبائعَ وأخلاقًا لتكونَ أكثرَ ائتلافًا واتِّفاقًا لِمَا يَعرِضُ لها في دينِها ودُنياها
  • الإلفُ هو المقوِّمُ الأكبرُ الَّذِي يقفُ وراءَ ثباتِ العبدِ على الاستقامةِ والباعثُ لهُ على السيرِ على منهاجِ الصَّلاحِ والدِّيانةِ
 

جاءت خطبة الحرم المكي بعنوان: (تزكية النفس)، التي ألقاها إمام الحرم فضيلة الشيخ د. بندر بليلة -حفظه الله-، وقد تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله وشكره على آلائه الجسام العظام فقال: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، واشكروه على ما حبَاكم به وأسدَاهُ، وعلى ما خصَّكم به وأَولاهُ، فنعم الله عليكم تترى، لا تُعَدّ ولا تُحصى؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}(إِبْرَاهِيمَ: 34).

أخلاق مجبولة عليها الأنفس

        خلَقَ اللهُ النفسَ البشريةَ، وأودعهَا طبائعَ وأخلاقًا، لتكونَ أكثرَ ائتلافًا واتِّفاقًا، لِمَا يَعرِضُ لها في دينِها ودُنياها؛ فالحُبُّ والبُغضُ، والرِّضا والسُّخْطُ، والحِلْمُ والجَهْلُ، والأَناةُ والعَجَلةُ، والجُودُ والبُخْلُ، كلُّ أولئكُمُ وغيرُها من الأخلاقِ ممَّا جُبِلَتْ عليهِ تلكَ النفسُ ولابُدَّ، ولم يخلُ منهَا مهمَا عَظُمَ أحدٌ.

تزكية النفس أمر إلهي

       ولقد جاءَ أمرُ اللهِ -تعالى- لعبادهِ تَشْريعًا وتَكْلِيفًا، بِتزكِيَةِ هذه النفسِ وتَهذِيبِهَا، لِيُسْلَكَ بها سَبِيلَ المُتَّقِينَ، ويُنْتَهَجَ بها نَهْجَ الصَّالِحينَ المُصْلِحِينَ، ألَا وإنَّ مِنْ أعظَمِ هذهِ الطَّبائعِ أثرًا على العبادِ، خُلُقَ الإِلْفِ والِاعْتِيادِ، وهُوَ -في ذاتِهِ- خُلُقٌ يَدُلُّ على استكمالِ النِّعَمِ ودوامِها، وثُبُوتِها واستقرارِها، واستمرارِها واستمرائِها، وهُوَ -لَعَمْرُ اللهِ- خُلُقٌ ينبَغِي أن يَدفَعَ بالمؤمنِ إلى مَزيدٍ مِن الشُّكرِ والاعترافِ، والتَّوْبةِ والازْدِلافِ.

إلف العبادات

       بدأ فضيلته بعد أنواع الإلف بعد تناول فضائله حين قال الإلفُ هو المقوِّمُ الأكبرُ الَّذِي يقفُ وراءَ ثباتِ العبدِ على الاستقامةِ، والباعثُ لهُ على السيرِ على منهاجِ الصَّلاحِ والدِّيانةِ، إذا ما عوَّدَ صاحبَهُ على الطاعةِ، وربَّاهُ على البِرِّ والعبادةِ، فيألَفُ العباداتِ، ويعتادُ فعلَ الخيراتِ؛ مِن صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وتِلاوَةٍ للقرآنِ، وصِلةٍ للأرحامِ، وسعيٍ في تَفريجِ الكُرُباتِ، وقضاءِ الحاجاتِ، وصُنعِ المعروفِ، وإغاثةِ الملهوفِ، وهذا إلفٌ محمودٌ، مرغَّبٌ فيهِ مقصودٌ، يُشكَرُ عليهِ صاحبُهُ، ويَزدَانُ بهِ حائزُهُ، حينَ يقودُ نفسَهُ لدروبِ الطاعاتِ، فتصبحُ لهُ عادةً، يَصعُبُ عليهِ انفكاكُهُ منها، ولا يَتَصَوَّرُ نفسَهُ بدُونِها، وهذَا -وأَيْمُ اللهِ- لَهُوَ التَّوفِيقُ للهِدَاية وللبِرِّ، ولِلصَّلاحِ وطِيبِ الأثرِ.

الإلف المحمود

       ثم انتقل لنوع آخر من أنواع الإلف وهو ما أسماه الإلف المحمود فقال ومِنْ أَضْرُبِ الإلفِ المحمودِ ما أودعهُ اللهُ في الإنسانِ من تعوُّدٍ على المصائبِ، وقُدرةٍ على تحمُّلٍ للمتاعبِ، ولولَاهُ لَمَا صفتْ حياةُ أولئكَ الذينَ نزلتْ بهِمُ الشدائدُ، وأحاطتْ بهِمُ المُدلهِمَّاتُ؛ لأنَّ صدمةَ المصيبةِ إنَّما تُؤلـِمُ أوَّلَ حدوثِها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «‌إِنَّمَا ‌الصَّبْرُ ‌عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» (متَّفَقٌ عليه)، ثُم ما إن تلبَثُ حتَّى تَخِفَّ وطأتُها، ويَسهُلَ أمرُها، فتَتَقبَّلَها النفسُ وترضَى بها، تسلِيمًا للهِ وإذعانًا، ورِضًا بقضاءِ اللهِ وقَدرِهِ وإيمانًا، وهذهِ مِن النِّعمِ الَّتي تستوجبُ الشكرَ؛ ذلكَ أنَّ المصائبَ لا يدومُ أثرُها، إِذَنْ فتتنغَّصُ حياةُ أصاحبِها، ويعسُرُ عليهِم قَبولُها.

الإلف المذموم

        ثم تناول فضيلته لنوع آخر من أنواع الإلف وهو الإلف المذموم حين قال وهناكَ إِلفٌ مذمومٌ، صاحبُهُ ملومٌ؛ وهو إلفُ نِسيانِ النِّعَمِ، والغفلةُ عن ذِكرِها وشُكرِها، وذلكُمْ هو بَريدُ كُفرانِها، المُؤذنُ بزوالِها، فلا يَعتَرِفُ للهِ بنعمَةٍ، ولا يُقِرُّ له بِمنَّةٍ، ورُبَّما نَسبَها إلى نفسِهِ، وإلى آبائِه وأجدادِهِ، كُفرًا منهُ وجُحودًا، كما قال -سبحانه-: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}(النَّحْلِ: 83)، قال مجاهد -رحمه الله-: «هو قول الرجل: ورثتُه عن آبائي». انتهى كلامه، ومعالَجةُ ذلكَ، إنَّما تكونُ بالحرصِ على عَدِّ النِّعمِ واستشعارِها، والاعترافِ بها للمُنعِمِ وادِّكارِها، وإعقابِ ذلكَ حمدًا وشكرًا، قولًا باللِّسانِ وفعلًا.

بالشكر تدوم النعم

        ثم وجه فضيلته لسبيل من سبل الحفاظ على النعم بقوله فاتقوا الله ولا يُنسِيَنَّكم الإلفُ والاعتيادُ ما أنتُم فيه من النعم والملاذّ، واشكروا ربَّكم على ما أَولاكُم وأعطاكُم، وتذكَّروا على الدوام نِعَمَ اللهِ عليكم، واسألوه ألَّا يحرمكم ما عوَّدَكم من جميل فضله وإحسانه، وجزيل عطائه وامتنانه.

الإلف القبيح

       وهنا تعرض فضيلته لنوع من أنواع الإلف عدها أقبح أنواع الإلف فقال أَقْبَحَ أنواع الإلفِ: إِلْفُ المَعْصِيَةِ واعتيادُها، والتغافُلُ عن شُؤمِها وبلائِها، وأشنعُ مِن ذلكَ: عدَمُ التأثُّمِ مِنْ فعلِهَا، وعدَمُ التأَلُّمِ مِنْ مُقارفَتِها، حتَّى تُصبِحَ كأنَّها مِن قَبِيل المُباحاتِ، حينهَا يُختَمُ على قلبِ صاحِبها، وهذِهِ -لَعمرُ اللهِ- مِن أعظَمِ العُقوباتِ، الَّتي تَستنزِلُ غضبَ رَبِّ الأرْضِ والسَّماواتِ؛ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(الْمُطَفِّفِينَ: 14).

علاج الإلف القبيح

        وفي نهاية خطبته دل فضيلته على طريق العلاج من الإلف القبيح هذا؛ فقال: والشفاءُ من ذلكَ بأوانِ الأَوْبةِ، ودوامِ التَّوبةِ، حتَّى تبقَى في النفسِ وحشَةٌ مِن كُلِّ معصيَةٍ وخطيَّةٍ، ونُفرةٌ مِن كُلِّ زَلَّةٍ ورَدِيَّةٍ، وذلكَ من أماراتِ الإيمانِ، في جامعِ الترمذيَّ وصحَّحَهُ قال - صلى الله عليه وسلم -: «‌مَنْ ‌سَرَّتْهُ ‌حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ».  

حقيقة الصبر وفضائله

  • حقيقة الصبر: هو حبسُ النفس عن الجزَع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن المعاصي والذنوب، بمعنى أن يتلقَّى العبد البلاءَ بصدر رحب دون شَكْوى أو سخط.
  • وقال العلماء: الصبر هو الإيمان الكامل واليقين الذي ليس فيه شكٌّ بأنَّ ما أصابك ما كان ليخطئَك، وما أخطأك ما كان ليصيبَك، وأنَّ كل شيء بقضاءِ وقدَر.
  • الصبر جاءتِ البشرى لأهله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155 - 157).
  • وأهل الصبر أخْبر الله أنَّه معهم: {إِنَّ اللَّهِ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153)، قال ابن القيِّم: «وهي معيَّة خاصَّة، تتضمَّن حِفظَهم ونصْرَهم وتأييدهم»، اهـ.
  • وأهل الصبر هم أهلُ اليمين؛ قال -تعالى-: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } (البلد: 17).
  • وأهل الصَّبْر هم أهلُ الصلاة والقادرون عليها؛ {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين} (البقرة: 45).
  • وأهلُ الصبر هم الفائزون في كلِّ مكان وزمان؛ {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 1- 3).
  • وأهل الصَّبْر هم أهلُ الخير والشُّكر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه عمرُ بن سعد بن أبي وقَّاص، عن أبيه، قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عجبتُ للمؤمن؛ إذا أصابَه خيرٌ حمِد الله وشَكَر، وإنْ أصابتْه مصيبةٌ حمِد الله وصبَر، فالمؤمن يُؤجَر في كلِّ أمره، حتى يُؤجر في اللُّقمة يرفعها إلى فِي امرأته».
  • ويقول عليٌّ بن أبي طالب -  رضي الله عنه -: إنَّ الصبر من الإيمان بمنزله الرأس مِنَ الجسد، وإذا قطع الرأس فسَد الجسد، كذلك إذا زال الصبرُ فسدتِ الأمور.
   

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك


X