رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 17 يونيو، 2021 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – تأملات في سورة الكوثر

 

تأملات في سورة (الكوثر)، هكذا كان عنوان خطبة الحرم المكي بتاريخ 23 من شوال 1442هـ - الموافق 4/6/2021م، للشيخ صالح بن حميد؛ حيث بين أن سورة الكوثر سورةٌ عظيمة، سورةٌ خالصة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، سورة يُسلي فيها الله -عز وجل- قلب نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويعده بالخير الكثير، ويوعد أعدائه بقطع الدابر وبئس المصير، وهذه السورة تُمثل حياة المسلم في دينه وفي دعوته وفي موقفه من أعداء الله وأعداء دينه.

     هذه السورة العظيمة تُظهر حفظ الله لعبده، ورعايته له وتثبيته، وجميل موعوده لنبيه وللمؤمنين، وعظيم وعيده لأعداء الله وأعداء رسوله من الظالمين والكافرين. إنها سورة قصيرة بل هي أقصر سورة في كتاب الله، سورة ما أجملها وما أغزر فوائدها وما أعظم بركاتها! إنها سورة الكوثر.

خطاب كريم مبهج

     ثم تلا الشيخ السورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}، وذكر أن الله -جل وعلا- يُخاطب نبيه وخليله ومصطفاه وحبيبه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخطاب الكريم المبهج، خطابًا يتضمن هذه المنحة الربانية والعطايا الإلهية، «إنا أعطيناك الكوثر» والكوثر نهر في الجنة، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة، بل قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إنّ نهر الكوثر الذي في الجنة هو من جملة الخير الكثير الذي أعطى الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم -، فالكوثر مأخوذ من الكثرة فهو الكثير، والغزير، والفائض، والدائم غير المنقطع ولا الممنوع، وهو الخير الكثير من القرآن، والحكمة، والنبوة، والدين، والحق، والهدى، وكل ما فيه سعادة الدنيا والآخرة. كوثرٌ لا نهاية لفيضه، ولا إحصاء لعدده، ولا حدّ لدلالاته.

الصلاة أجلُّ العبادات البدنية

     ثم بين الشيخ ابن حميد أنه في مقابل هذا الخير الكثير والعطاء الجزيل أمر الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقوله -عز شأنه-: {فصل لربك وانحر} أمره أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين الصلاة والنسك. فالصلاة والنسك هما أجلُّ ما يُتقرب به إلى الله -عز وجل. فأجلُّ العبادات البدنية الصلاة، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها من سائر العبادات؛ فالصلاة تتضمن خضوع القلب والجوارح، والتنقل في أنواع العبودية، كما يعرف ذلك أرباب القلوب والهمم العالية.

النحر أجلُّ العبادات المالية

     وأضاف أن النحر أجلُّ العبادات المالية، وما يجتمع في النحر من إيثار الله، وحسن الظن به، وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص. وقد جاء الأمر بالصلاة والنحر معطوفًا بالفاء الدالة على السببية كما يقول أهل العلم، فالصلاة والنحر سببٌ للقيام بشكر ما أعطى الله من الكوثر والخير الكثير، وقد تمثل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ربه، فكان كثير الصلاة حتى تفطرت قدماه وهو يقول: «أفلا أكون عبدا شكورا»؟. وكان كثير النحر حتى نحر بيده ثلاثا وستين بدنة في حجة الوداع، وقد أهدى مئة من الإبل، وكان ينحر في الأعياد وغيرها.

من الأبتر؟

     وذكر الشيخ أن آخر هذه السورة هو الذي يفسر معناها ويوضح غايتها والمراد منها، قال -عز شأنه-: {إن شانئك هو الأبتر}. إن مبغضك يا محمد وكارهك ومن لا يحبك هو الأبتر، وهو الأذل، وهو المنقطع دابره الذي لا عقب له ولا أثر، وأبتر مقطوع لا يراد به خير، ولا عمل صالح، ولا ولد صالح، وكل شانئٍ لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ومبغض له فهو أبتر، وكل شانئٍ لهذا الدين وشانئٍ لأتباعه فهو أبتر، فمن شنأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكرهه وكره ما جاء به بتره الله من كل خير، بتر الله ذكره، وبتر أهله، وبتر ماله، وخسر دنياه وآخرته، بتر حياته فلا ينتفع بها، وبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يُؤهّله لمعرفته ولمحبته، بتر أعماله فصرفها عن الطاعة والعمل الصالح، بتره عن الأنصار والأعوان، وبتره من جميع القُرب وأعمال البر، فلا يذوق للإيمان طعما ولا للطاعة حلاوة وإن باشرها بظاهر جوارحه فقلبه مصروف عنها.

     ومن شنأ وكره بعض ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وردّه لأجل هواه أو مدفوعه أو شيخه أو طائفته أو حزبه، فصار يؤثر كلام الناس وعلومهم وآراءهم على كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلوم القرآن والسنة فهو داخل في هذا، فكل من ناوأ هذا الدين فهو المخذول والمقطوع والمبتور.

أهل السنة يموتون ويحيا ذكرهم

     ثم ذكر ابن حميد مقولة لأبي بكر بن عياش -رحمه الله- فقد قيل له: إن بالمسجد قوما يجلسون ويُجلَس لهم – يعني يلتف الناس حولهم ويكثرون- فقال: من جلس للناس جلس الناس إليه، ولكن أهل السنة يموتون ويحيا ذكرهم، وأهل البدع يموتون ويموت ذكرهم ؛لأن أهل السنة أحيَوا ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لهم نصيب من قوله -سبحانه-: {ورفعنا لك ذكرك} وأهل البدع والانحراف شنؤوا ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لهم نصيب من قوله -سبحانه-: {إن شانئك هو الأبتر}.

المهلكات الثلاث

     ثم حذر إمام الحرم من أن يَكره المسلم شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يرده لأجل هواه أو انتصارا لمذهبه أو شيخه أو حزبه أو طائفته أو لأجل انشغاله بالدنيا وشهواتها. إنّ على المسلم أنْ يلزم السنة والجادّة حتى لا يكون أبتر مردودًا عليه عمله، فالمهلكات ثلاث: اتباع الهوى، والتعصب للمذهب والجماعة، والانشغال بالدنيا وشهواتها.

عطايا الله لنبيه وأتباعه الصادقين

     وفي مقابل هذا البغض والكره والشناءة أعطى المولى -عز وجل- حبيبه وخليله ونبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه والصادقين في محبته والمؤمنين بسنته أعطاهم هذا الكوثر، أعطاهم خيري الدنيا والآخرة، أعطاهم في الدنيا الهدى، والنصر، والتأييد، وقرة العين، وابتهاج النفس، وشرح الصدر، وتنعم القلب بذكر الله وحبه نعيما لا يشبهه نعيمٌ في الدنيا، كما أعطى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة الوسيلة، والمقام المحمود، والحوض المورود، والشفاعة الكبرى، وأعطاه لواء الحمد في الموقف العظيم.

الكوثر العظيم

     فالمسلم حينما يتتبع هذا الكوثر العظيم الذي أعطاه الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فسيجده في السنة وحفظها، وفي القرآن الكريم وحفظه، ويجده في حفظ دين الله وفي السنة المطهرة، ويجده في هذا الانتشار العظيم لدين الإسلام، والأتباع الذين يزيدون ولا ينقصون، ويقوون ولا يضعفون، لا يزالون على الحق ظاهرين، كلها تلهج بذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - وبدينه، تحبه وتحوطه، وتدافع عنه، وتحفظ دينه وكتابه، وتُعَظّم شريعته.

     لقد أبقى الله ذكره على رؤوس الأشهاد، وشرعه، ودينه لجميع العباد محفوظا أبد الآباد إلى يوم المعاد -صلوات الله وسلامه وبركاته الدائمات المتكاثرات- إلى يوم التناد، قال -تعالى-: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}.

 مقاييس الله وموازينه

     ثم أكد فضيلته أنّ مقاييس الله غير مقاييس البشر، وموازين العزيز الكريم غير موازين الضعفاء المهازيل، فانظروا حينما قال الكفار وصناديدهم في حق محمد - صلى الله عليه وسلم -: دعوه فإنه أبتر سوف ينتهي أمره، ويموت بالعقب، فجاءت هذه السورة العظيمة لتبين أين يكون الانقطاع والامتداد؟ وأين يكون الخير والفيوض؟ وأين موارد النقص والهلاك والخسران؟ وأين ميادين الربح والفوز والعلو والتمكين؟ فالبشر ينخدعون ويغترون فيحسبون أن مقاييسهم ونظرياتهم ومعاييرهم هي التي تقرر الحقائق، وتتحكم في مجاري الأمور. إنّ الدين الحق والدعوة إلى الله لا يمكن أن تكون بتراء، ولا يمكن أن يكون صاحبها أبتر، بل هي العز، والنصر، والتمكين، والرفعة في الدنيا والآخرة.

سورة تمثل الدين وأهله

ثم ختم إمام الحرم خطبته مؤكدًا على أنَّ هذه السورة العظيمة تُمثل الدين وأهله، بما فيهم وما لهم من الهدى، والخير، والإيمان، وفيوض الله ومدده وكرمه، وما لأعداء الدين وأهل الكفر والضلال والشرك والانحراف من الخسران والهلاك وقطع الدابر.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك