خطبة الحرم المكي – المكر السيئ: صوره وكيفية النجاة من عواقبه
في خطبة له بعنوان: (المكر السيئ: صوره وكيفية النجاة من عواقبه) بين الشيخ أسامة بن عبدالله الخياط (إمام المسجد الحرام) أنَّ صدقَ التعامُل وصفاء القلب، وتزكية النفس، وصواب المقصد، وسلامة الوسيلة، وصحة الغاية، كل أولئك من أظهر صفات المتقين من عباد الله، والصفوةِ من عباد الرحمن، الذين استضاءت قلوبهم بأنوار القرآن، وأشرقت نفوسهم بآياته وعظاته، فغَدَوْا -في ضياء القرآن وهَدْي النبوة- أشد الناس حبًّا لله، وأعظم الخَلْق حُبًّا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن لوازم ذلك كمال المحبة لِمَا يحبه الله ورسوله، وتمام البغض لِمَا يبغضه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم .
المكر السيئ ممَّا أبغَضَه اللهُ -تعالى
وإن ممَّا أبغَضَه اللهُ -تعالى- وكرهه رسولُه - صلى الله عليه وسلم - صفةَ المكر السيئ؛ وهو إخفاء الأذى، والسعي إلى إيصاله إلى مَنْ مُكِرَ به بكل سبيل، فكان سيئًا مكروهًا من صفات الأشرار، لا من صفات المؤمنين الأخيار، وكانت عاقبةُ أهله أن يحيط بهم جزاءُ مكرهم، ويرتدَّ عليهم سوءُ تدبيرهم، فيَنقُض اللهُ ما أبرموه، ويحبط الكيدَ الذي كادوه، ويبوؤون بالخزي والهزيمة، ويتجرَّعون غُصَص الحسرة والندامة، حين لا تنفع حسرةٌ ولا ندامةٌ، وفي هذا يقول -عزَّ من قائل في شأن المشركين المكذِّبين بآيات الله عَزَّ وَجَلَّ ورُسُلِه-: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(فَاطِرٍ: 42-43).
ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه، والطبراني في معجمه الكبير، بإسناد حسن عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «مَنْ غشَّنا فليس منَّا، والمكرُ والخِداعُ في النَّارِ»؛ أي: مُفضٍ بصاحبه إلى الاصطلاء بالنار يوم القيامة.
ثلاثٌ مَنْ فعَلَهنَّ لم يَنجُ
ونُقل عن الإمام محمد بن كعب القرظي -رحمه الله- قوله: «ثلاثٌ مَنْ فعَلَهنَّ لم يَنجُ حتى يُنزَل به -أي: حتى يَنزِل به عاقبةُ ما فعل- مَنْ مكَر أو بغَى أو نكَث»، وتصديقها في كتاب الله قوله -سبحانه-: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}(فَاطِرٍ: 43)، وقوله: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}(يُونُسَ: 23)، وقوله: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}(الْفَتْحِ: 10) الآياتِ، وإنَّ كلَّ خَصلة من هذه الخصال، مُؤذِنة لِمَنِ اتَّصف بواحدة منها بسوء المنقلب، وضلال السعي، وقُبح المصير، فكيف بمَن تلوَّث بأرجاسها جميعًا، فرضي لنفسه التردِّي في وَهْدَتِها، والسقوطَ في حمأتها.
صور المكر السيئ
إن لصفة المكر المقبوحة في دُنيا الناس، صورا تَجِلُّ عن الحَصر، وأمثلةً تَربُو على العَدّ؛ فمن ذلك:
الوقيعة بين الزوجين
ما يفعله بعضُ الناس مِنْ دخول بين المرء وزوجه، بالوقيعة والفساد، فيَعمَل على قطع حبل الوُدِّ بينَهما، وتغيير قلب الزوجة على زوجها، بإغرائها بأن تَطلُب الطلاقَ من زوجها بدعوى أنَّه لا يَصلُح لها، وأنَّه لا يستحقها، وأنها لم تُخلَق له ولم يُخلَق لها، وليس عندَه ما يَحمِلُها على البقاء معَه، وأنَّ لها عليه إذا قَبِلت منه، وأجابَتْه إلى ما أراد أن يُسارِعَ إلى الزواج منها فورَ انتهاء عِدَّتها من زوجها، مع ما يَعِدُها ويُمنِّيها به من خفض عيش، وحياة مترَفة مرفَّهة تنتظرها في كَنَفه، مهتَبِلًا فرصةَ وجودِ خلافٍ بين الزوجين، لا يكاد يَسلَم منه بيتٌ، ولا تَخلُو منه أسرةٌ، ضاربًا عُرضَ الحائط، بكل قواعد المروءة ومكارم الأخلاق، وشِيَم النبلاء، بسعيه إلى هدمِ أسرةٍ، وفضِّ اجتماعٍ، وتشريدِ أولادٍ، غافلًا أو غيرَ آبهٍ بالوعيد الزاجر لِمَنْ فعَل هذا العملَ المرذولَ، وذلك في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح واللفظُ له، وابنُ حبانَ في صحيحه، من حديث بُرَيدَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ حَلَفَ على الأمانَةِ فليس منَّا، ومَنْ خَبَّبَ على امرئٍ زوجتَهُ، -أي: أفسدها عليه- فليس مِنَّا». وفي سنن النسائي، وصحيح ابن حبان بإسناد صحيح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ أَفْسَدَ امرأةً على زَوْجِها فَليسَ مِنَّا».
الخداع في الزواج
ومن ذلك ما يقوم به بعضُ أهل المكر والخديعة، حين يَعمِد إلى امرأةِ ذاتِ مالٍ ومكانةٍ، فيخطبها إلى وليِّها، مُظهِرًا الرغبةَ الخالصةَ في الاقتران بها، سالكًا في بلوغ هدفه كلَّ سبيل، مُبدِيًا من معسولِ قولِه، باذلًا مِنْ فضلِ مالِه، ما يبلغ به الغايةَ، حتى إذا تمَّ له ما أراد، إذا به يَكشِف عن خبيئةِ نفسِه، ويُظهِر حقيقةَ أمرِه، فما هو إلا طالبُ مالٍ، وعبدُ دينارٍ، ظَفِرَ بما سعى إليه، ثم لم يَلتَفِتْ بعدَ ذلك إلى فضلِ أو ح صلى الله عليه وسلم [- بالنساء في خطبة حَجَّة الوداع بقوله: «فاتَّقوا اللهَ في النساءِ»، وفي رواية: «استَوْصُوا بالنِّساءِ خيرًا؛ فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانةِ اللهِ، واستحللْتُم فروجَهنَّ بكلمةِ اللهِ». الحديثَ، (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه)، وغافلًا أو مُعرِضًا عن قوله -[-: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ»(أخرجه الإمام مسلم في صحيحه)، ولا ريب أن هذا من أظهر الظلم وأشده ضررًا على الأسرة والمجتمع المسلم.
خداع الناس في التجارة
ومِنْ صُوَر ذلك أيضًا -يا عباد الله- ما يقوم به بعضُ الناس من إيهام غيره بأنَّه يعمل في مشروعات، ويُشارِك في صفقات، طالِبًا إليه المشارَكةَ بماله ليحظى بربحٍ مضمونٍ، ومكاسبَ كبيرةٍ كما يزعُم، فإذا انجلى الغبارُ، وأسفَر الصبحُ، تبيَّن أنَّها صفقاتٌ وهميةٌ، ومغامراتٌ فاشلةٌ، لم تُدرَس، ولم تُمحَّص، ولم يُعلَم ما وراءها، وغَفَلَ فاعلُ ذلك أو أَعرَض عمَّا جاء من وعيدٍ لِمَنْ يصنع ذلك؛ وذلك في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن أخَذَ أمْوالَ النَّاسِ يُرِيدُ أداءَها أدَّى اللَّهُ عَنْهُ، ومَن أخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ».
الكيد للآخر لزوال النعمة
ومن ذلك أيضًا ما يفعله بعضُ مَنْ فَسَدَ طَبعُه، وساء عَملُه، بحسده لغيره، والنظرِ إلى ما في يديه، ممَّا حَبَاهُ اللهُ مِنْ فَيضِ النِّعمِ، ووافرِ الخيراتِ، فيتمنَّى زوالَها عنه، وانتقالَها إليه، بغيرِ جِدٍّ ولا عملٍ، بل حَسَدًا وظُلمًا وعُدوانًا، فيسعى للكيد له، ويَمضي في المكر به، فالحاسدُ عدوُّ النِّعَمِ، وهذا الشرُّ هو مِنْ نفسِ الحاسدِ وطَبعِهِ، ليس هو شيئًا اكتسبه من غيرها؛ بل هو من خُبثِها وشرِّها، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «وقد شاهَد الناسُ عِيانًا أنَّ مَنْ عاشَ بالمكرِ ماتَ بالفقرِ».
صور متعددة
ألَا وإنَّ صُوَرَ ذلك كثيرةٌ لا حدَّ لها، ومردُّها والباعثُ عليها جميعًا، عدمُ الخوف من الله -تعالى-، وكراهةُ الخير لعباده فلنحذر من المكر السيئ، فإنَّه مرتدٌّ على صاحبه، محيطٌ بأهله، وكفى به سوءًا أن يكون سببًا يُفضِي إلى ارتفاعِ ثقةِ الناسِ بعضهم ببعض، وإلى ألَّا يأمنَ بعضُ الناس بعضًا، وليس ذلك مِنْ شأنِ المجتمعِ المسلمِ الراشدِ، وإنَّ في ذمِّ اللهِ -تعالى- ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الصفة لَمُزدجرًا لقوم يعقلون.
كيفية النجاة من المكر السيئ
إنَّ أعظمَ ما يلوذ به مَن مُكِرَ به، الفرارُ إلى الله بصدق اللجوء إليه، وكمال الإقبال عليه، ودوام الثِّقة به -سبحانه-، واليقين بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنَّه لا ملجأَ ولا مَنجَى منه -سبحانه- إلَّا إليه، وذلك الفرارُ إلى الله -تعالى-، هو معنى الهجرة إليه، كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه»؛ ولهذا يَقرِن اللهُ -سبحانه- بين الإيمان والهجرة في غير موضعٍ؛ لتلازُمِهِمَا، واقتضاءِ أحدِهِما للآخَر، والمقصودُ أنَّ الهجرةَ إلى الله تتضمَّن هِجرانَ ما يَكرَهُه، وإتيانَ ما يُحِبُّه ويرضاه، وأصلُها الحبُّ والبغضُ، فإنَّ الْمُهاجِرَ من شيء إلى شيء لا بدَّ أن يكون ما هاجَر إليه أحبَّ ممَّا هاجَر منه، فيُؤْثِر أحبَّ الأمرينِ على الآخَر».
لاتوجد تعليقات