رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 22 يوليو، 2024 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – المعينات على الثبات حتى الممات

  • لا صلاحَ إلا بالثبات ولا نجاةَ إلا بالإخلاص والقلبُ أحقُّ ما حُرِسَ والجوارح أكرم ما حُمِيَ
  • الخوف من الزيغِ بعد الاستقامة والفزع من الضلالِ بعد الْهُدَى كل ذلك حاضرٌ في صدور الربانيينَ الراسخينَ في العلم أُولي الألباب
  • مِنْ أخطرِ مسالكِ المهالكِ ذنوبُ الخلوات وقد كثرَتْ وسائلُها ولا يَزجُر عن إثمها واقترافها إلا خوفُ الله ومراقبتُه
  • الثباتُ على الدين مطلبٌ عزيزٌ ولزومُ الجادَّةِ مقصدٌ ثقيلٌ يحتاجه المسلمُ في حياته كلها
 

جاءت خطبة الحرم المكي لهذا الأسبوع بتاريخ 8 محرم 1446 هـ الموافق 12  يوليو 2024 م بعنوان (المعينات على الثبات حتى الممات)، التي ألقاها إمام الحرم فضيلة الشيخ  صالح بن عبد الله بن حميد -حفظه الله-، الذي تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله واغتنام الأيام وإحسان الأعمال فقال:

         أوصيكم -أيها الناسُ- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، اغتنِموا الأيامَ قبل فواتها، وأحسِنوا أعمالَكم قبلَ موافاتها، تتصرَّم الأعوام عامًا بعد عام، والناس في غفلة نيام، يشاهدون المنايا، وتفجؤهم الآفات والبلايا، وهذا عام قد ودَّعتموه، شاهد بما قد أودعتموه، ثم تأملوا -رحمكم الله- على شيء تطوى صحائف هذا العام، هل على صالح الأعمال؟ أم على غفلة وتفريط وإهمال؟ فيا ترى من هو الملام؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}(الْمُؤْمِنَونَ: 115).

الابتلاء سنة إلهية

في مسيرة الإنسان إلى ربه فتن خطَّافة، وابتلاءات جذَّابة؛ {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(الْأَنْبِيَاءِ: 35). الابتلاء من سُنن الله -عز وجل-؛ لِيَتَبَيَّنَ الذين صدقوا، ولِيَتَبَيَّنَ الكاذبون، بسم الله الرحمن الرحيم: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(الْعَنْكَبُوتِ: 1-3)، وعند الابتلاءات -عباد الله- تُخشى الانتكاساتُ. تقلُّب القلوب وتحوُّلها مِنْ أعظمِ دلائلِ سلطانِ اللهِ على القلوب؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(الْأَنْفَالِ: 24)، فمَنْ تثاقَل عن الاستجابة وتباطَأ عن القَبول فلا يأمَنُ أن يَحُولَ اللهُ بينَه وبينَ قلبِه.

الثبات عزيز

        الثباتُ على الدين مطلبٌ عزيزٌ، ولزومُ الجادَّةِ مقصدٌ ثقيلٌ، يحتاجه المسلمُ في حياته كلها، ثباتٌ أمامَ الشُّبُهات، وثباتٌ أمامَ الشهوات، وثباتٌ أمامَ الفتن؛ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}(إِبْرَاهِيمَ: 27)، وعن سبرة بن فاكهة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قلبُ ابنِ آدمَ بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يُزيغه أزاغه، وإن شاء أَنْ يُقِيمَه أقامَه»(رواه ابن أبي عاصم في السنة، وصححه الألباني)، وعن المقداد بن الأسود - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قلبُ ابنِ آدمَ أشدُّ تقلُّبًا من القِدْر إذا استجمعَتْ غليانَها»(رواه أحمد وغيره)، وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثِر أن يقول: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلبي على دينك، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ: آمنَّا بكَ، وبما جئتَ به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء»(رواه الترمذي بسند صحيح).

من صفات المؤمنين

        ثم بين الشيخ بعض من صفات المؤمنين وحالهم فقال: «فالخوف من الزيغِ بعد الاستقامة، والفزع من الضلالِ بعد الْهُدَى كل ذلك حاضرٌ في صدور الربانيينَ الراسخينَ في العلم أُولي الألباب، اقرؤوا إن شئتم: {وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}(آلِ عِمْرَانَ: 7-8)، يقول الإمام ابن بطةَ العكبريُّ -رحمه الله-: «اعلموا -رحمنا اللهُ وإيَّاكم- أن من شأن المؤمنين وصفاتهم وجودَ الإيمان فيهم، وداومَ الإشفاق على إيمانهم، وشدةَ الحذر على أديانهم، فقلوبُهم وجلةٌ من خوف السَّلْب، قد أحاط بهم الوجلُ، لا يدرونَ ما اللهُ صانعٌ بهم في بقية أعمارهم، حذرينَ من التزكية، متبعينَ لِمَا أمرَهم به مولاهم الكريم؛ حيث يقول: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}(النَّجْمِ: 32)، خائفين من حلول مكر الله بهم في سوء الخاتمة، لا يدرون على ما يصبحون ولا على ما يمسون، قد أورثهم ما حذرهم -تبارك وتعالى- الوجل؛ حين يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}(لُقْمَانَ: 34)، فهم بالحال التي وصفهم الله -عز وجل- حيث يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}(الْمُؤْمِنَونَ: 60)، فهم يعملون الصالحات، ويخافون سلبها، ويخافون من الفواحش والمنكرات، وهم وجلون من مواقعتها، وبذلك جاءت السنة عن المصطفى» انتهى كلامه -رحمه الله. والحكماء يقولون: «قد يكون تحتَ صفاءِ الأوقاتِ غوامضُ الآفاتِ».

أسباب النجاة من الانتكاسات

          ومِنْ أجلِ أن يحذَر العبدُ من هذه الانتكاسات والتقلُّبات فعليه بمراقَبة ربِّه في السر والعلن، والظاهر والباطن، وعليه حفظُ وقتِه، ولسانه، والجِدُّ في عمله، والبعدُ عن الغُلُوِّ والجفاءِ، ولْيحذَرِ الهوى، والعُجْبَ، والرياء؛ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(الْعَنْكَبُوتِ: 69)، قال أهل العلم: «الطاعة تُوجِب القربَ من الرب، والمعصيةُ تُوجِب البعدَ عن الرب، وكلما اشتدَّ القربُ قَوِيَ الأنسُ، وكلما زاد البعدُ قويت الوحشةُ».

أسباب معينة على الثبات

ثم تعرض فضيلته لجملة من العوامل والأسباب المعينة على أمر الثبات فقال: ولقد ذكَر أهلُ العلم جملةً من الأسباب المعينة على الثبات؛ منها:

العمل بالشرع

يقول -عز شأنه-: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا}(النِّسَاءِ: 66-67).

ملازمة كتاب الله -عز وجل

ومنها: مُلازَمة كتاب الله -عز وجل-، يقول -جل وعلا-: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(النَّحْلِ: 102).

صحبة الأخيار

ومنها: صحبة الأخيار، يقول -عز وجل-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}(الْكَهْفِ: 28).

البعد عن مواطن الشبه

ومنها: البُعْد عن مَواطِن الشُّبَه: شهوات، وشبهات: «مَنْ سَمِعَ بالدجالِ فَلْيَنْأَ عنه».

العلاقة بين طاعة العبد وكفاية الله له

لا صلاحَ إلا بالثبات، ولا نجاةَ إلا بالإخلاص، والقلبُ أحقُّ ما حُرِسَ، والجوارح أكرم ما حُمِيَ، وما صدَق صادقٌ فَرُدَّ، ولا طرَق البابَ مخلصٌ فَصُدَّ، واللهُ كافٍ عبدَه، وكلما زادت طاعةُ العبد ازدادت كفايةُ الله له؛ كما قرَّر ذلك الحافظُ ابن القيم -رحمه الله.

علامات صدق التوبة

        ثم تناول فضيلته أحد أهم العوامل والأسباب المؤدية للثبات فدلنا عليه بقوله: فليلجأ العبد إلى حرم الإنابة، وليَطْرُقْ في الأسحار بابَ الإجابة، ومَنْ صدَق في توبته ظهَر الندمُ في قلبه، وأقلَع عن ذنبه، وعزَم على عدم العَوْد، وأتبَع السيئةَ الحسنةَ، اللهمَّ وفِّقْنا للعِبْرة، وأَقِلْ منا العثرةَ، وأزل عَنَّا الحسرةَ، ولا تَدَعْنا في غمرة، ولا تَأخُذْنا على غِرَّة؛ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(الْبَقَرَةِ: 235).

قسوة القلب من كسب يد العبد

        وفي هذا الجزء من الخطبة تعرض الشيخ لأمور عدة من شأنها الوقوع في الانتكاسات فكان من ضمن ما قاله: وأسبابُ الضلالِ والانحرافِ والانتكاسِ -عياذًا بالله- تعود للمرء نفسه ولمسؤوليته خاصةً؛ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}(الصَّفِّ:5)، {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}(التَّوْبَةِ:127)، {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}(الْأَعْرَافِ:146)، ومن قسا قلبه فما ذلك إلا بذنبه وكسبه؛ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(الْمُطَفِّفِينَ:14)، ومحقَّرات الذنوب متى يُؤخَذْ بها صاحبُها تُهلِكْه.

خطورة ذنوب الخلوات

        ومِنْ أخطرِ مسالكِ المهالكِ ذنوبُ الخلوات، وقد كثرَتْ وسائلُها، ولا يَزجُر عن إثمها واقترافها إلا خوفُ الله ومراقبتُه، يقول ابن القيم -رحمه الله-: «ذنوب الخلوات سبب الانتكاسات، وعبادة الخلوات سبب الثبات، وكلَّما طيَّب العبدُ خَلوَتَه بينَه وبينَ ربِّه طيَّب اللهُ خلوتَه في قبره». فليأخُذِ العبدُ حذرَه من ذنوب الخلوات، مع أدوات الاتصالات، وعبادةُ السرِّ تَقِي من نوازع الشهوات، والمراقَبة في الخلوات تُرسِّخ قدمَ الثبات، ومَنْ أكثَر العبادةَ في الخلوات ثبَّتَه اللهُ عند الشدائد والمدلَهِمَّات، ومَنْ خافَ أدلَج، ومَنْ أدلَج بلَغ المنزلَ.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك