رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 28 ديسمبر، 2020 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – المعيقلي: أشرف العلوم ما يُعَرِّف بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله

 


أكد إمام الحرم المكي الشيخ ماهر المعيقلي في خطبة الجمعة الماضية بتاريخ 18/12/ 2020 الموافق 3/5/ 1442هـ أنَّ أشرف العلوم وأجلها، ما يُعَرِّف بالله -جل جلاله-، وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو حقيقة الإيمان، وغاية دعوة الرسل؛ فإنّ العبد إذا عرَف ربّه بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، أخلَصَ بتوحيده، وأحبّه وأطاعه، وابتعد عن معصيته ومخالفة أمره، فالمقصود من إيجاد الخَلْق، عبادة الخالق والتعرف عليه -سبحانه-، بعظيم قدرته وشمول علمه وكمال تدبيره. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق:12).

أعظم سور القرآن

     وأشار الشيخ المعيقلي إلى أنَّ القرآن الكريم بيّن كثيرًا من أسماء الله وصفاته وأفعاله، وأعظم سور القرآن وآياته، هي المشتملة على بيان أسماء الرب وصفاته وأفعاله، فسورة الفاتحة أعظم سور القرآن، فيها حمد وثناء، وتعظيم وتمجيد، وبيان لأسماء الله الحسنى وصفاته العلا، وأنه الإله المتفرد بالألوهية، والرّب المتفرد بالربوبية، الرحمن الرحيم، المالك ليوم الدين.

سورة الإخلاص

     وأضاف الشيخ المعيقلي أن سورة الإخلاص، تعدل ثلث القرآن؛ لأنها أُخلِصَت لبيان صفة الرحمن، وفي الصحيحين أن النبي - صلى  الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ «قل هو الله أحد» فلما رجعوا، ذكروا ذلك لرسول الله - صلى  الله عليه وسلم - فقال: سَلُوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أُحِبُّ أن أقرأ بها. فقال النبي - صلى  الله عليه وسلم -: أخبروه أن الله يحبه، وكلما كان العبد بالله أعْرَف، كان منه أخْوَف ولعبادته أطْلَب، وعن معصيته أبعد، ومنه -جل جلاله وتقدست أسماؤه- أقرب، وكان قلبه في شوق دائم إلى لقاء ربه، ومحبته ورؤيته. ومن أحَبَّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه.

عبودية الأسماء والصفات

     ثم بين الشيخ المعيقلي أن لكل اسم من أسماء الله -تعالى-، ولكل صفة من صفاته، عبودية تليق به، وإنّ من أسماء الله -تعالى- الحسنى ومن صفاته العليا، اسم الله اللطيف، الذي دقّ علمه بكل الخفايا، فيعلم السر وأخفى، من خلجات الصدور، ومكنونات النفوس، وفي هذا المعنى ما جاء في صحيح مسلم أن جبريل -عليه السلام- أتى للنبي - صلى  الله عليه وسلم - بالليل، وقد تهيأ - صلى  الله عليه وسلم - لنومه، فأخبره بأمر الله -تعالى- لأن يستغفر لأهل البقيع، فقام - صلى الله عليه وسلم - برفق من فراش عائشة، فلما خرج لحقته عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- متخفية، تنظر ماذا يفعل، فلما انحرف راجعا رجعت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فسبقته إلى فراشها كأنها نائمة، فدخل - صلى  الله عليه وسلم- فقال: ما لك يا عائش! حاشية رابية (أي مرتفعة النفس) قالت: قلت لا شيء، قال: لتخبريني، أو ليخبرَنّي اللطيف الخبير. فأخبرته وقالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، وكانت -رضي الله عنها وأرضاها- تظن أنه - صلى  الله عليه وسلم - ذاهب لبعض نسائه في ليلتها، ومن معاني اللطيف أنه يوصل إلى عباده نِعَمَه، ويدفع عنهم نقمه بلطفه وإحسانه، ويسوقهم إلى كمالهم وسعادتهم بطرائق خفية قد لا يشعرون بها، ولا يهتدون لمعرفتها إلا إذا لاحت لهم عواقبها. { وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216).

أعرف خلق الله به أنبياؤه ورسله

وبين الشيخ المعيقلي أنَّ أعرف خلق الله به أنبياؤه ورسله، فمن نظر فيما جرى عليهم من الأمور التي في ظاهرها امتحان وابتلاء، وبأساء وضراء، ولكن في باطنها لطف ورأفة، ورفق ورحمة أيقن أن الأمر كله بيد اللطيف.

يوسف -عليه السلام

     فهذا يوسف -عليه السلام، توالت عليه الشدائد منذ صغره، فتآمر عليه إخوته، وحرموه من البقاء مع والديه، وألقوه في الجب، وبيع بثمن بخس، ثم لبث في السجن بضع سنين وهو وحيد بعيد، ولكن الله -تعالى- لطف به. فالجُب كان حماية له من القتل، والرِّق كان حماية له من التيه في الصحراء، والسجن ابتلاء وعصمة من دواعي المعصية، وفيه التقى بمن أوصل نبأه إلى الملك، فأصبحت هذه البلايا والرزايا سببا لرفعة يوسف -عليه السلام، في الدنيا والآخرة. وجمع الله شمله بوالديه وأهله، وهو في غاية العز والعظمة والرفعة، مع ما منّ الله -تعالى- به عليه من النبوة، {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(يوسف:100).

مظاهر لُطف الله بعباده

     ثم عدَّدَّ الشيخ المعيقلي مظاهر لُطف الله بعباده مبينًا أنها كثيرة، لا يمكن حصرها، أو الإحاطة بها، ومن ذلك لُطف الله بعباده أنه يُقَدِّر أرزاقهم بما يحتسبون وما لا يحتسبون، وبما يظنّون وما لا يظنّون، وكل ذلك بحسب علمه بمصالحهم لا بحسب رغباتهم، لطفاً بهم وبرّا، ورحمة وإحسانا، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (الشورى:27). وفي مسند الإمام أحمد أن رسول الله - صلى  الله عليه وسلم - قال: «إنّ الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يُحِبُّه كما تَحْمونَ مريضكم من الطعام والشراب تخافونه عليه» صححه الألباني.

إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور

     ومن لطفه -سبحانه- بعباده المؤمنين، يخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعصية، إلى نور العلم والإيمان والطاعة، ويذيقهم حلاوة بعض الطاعات ليرغبوا بما هو أَجَلّ وأعلى منها، كما يوفقهم بلطفه وإحسانه لنهي النفس عن الهوى فيجازيهم جنة المأوى، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:40-41).

التوفيق إلى الصبر

     ومن لطف الله بعبده أن يبتليه ببعض المصائب، فيوفقه -سبحانه- بالصبر عليها فينال الدرجات العالية، التي لا يدركها بعمله، فإن كان قوي الإيمان شُدّد عليه في البلاء، ليزداد بذلك إيمانه، ويَعظُم أجره، وأما المؤمن الضعيف فيُخفّف عنه البلاء لُطفاً به ورحمة، لئلا يَضعُفَ إيمانه، فسبحان اللطيف في سراءه وضراءه وعافيته وابتلائه. وفي الصحيحين أن النبي - صلى  الله عليه وسلم - قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكُها إلا كَفّرَ الله بها من خطاياه»، {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء:19). وفي الزهد لابن المبارك قال عمر - رضي الله عنه -: «ما أبالي على أي حال أصبحت، على ما أُحب أو على ما أكره؛ لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره».

المعاصي سبب لرحمة الله وعفوه

     ومن لطف الله -تعالى- بعبده، أن يجعل ما يقترفه العبد من المعاصي سببا لرحمة الله وعفوه، ويفتح له بعد وقوع المعصية باب التضرع والتوبة، حتى لترى العبد يُسرِف على نفسه في المعاصي فإذا لم يبق بينه وبين قبره إلا ذراع، فتح اللطيف عليه أبواب الاستغفار والتوبة، فندم على ما مضى من حياته، وعَمِلَ بعَمَلِ أهل الجنة. وفي الصحيحين قال رسول الله - صلى  الله عليه وسلم -: «إنّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة». قال ابن القيم -رحمه الله-: «فإنه سبحانه القيّوم، المقيم لكل شيء من المخلوقات، طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيّوميته بمن أحبه وتولاه، وآثره على ما سواه، ورضيَ به من دون الناس حبيبا وربّا، ووكيلا وناصرا، ومعينا وهاديا، فلو كَشَف الغطاء عن ألطافه، وبِرِّه وصُنعه له؛ من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، لذاب قلبه حُبا لله، وشوقا إليه، ويقع شكرا له».أهـ. فسبحان من كان بعباده خبيراً بصيراً، حليماً كريما، عفواً غفوراً رحيما! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:13-14).

صلاح القلوب

     وعن آثار الإيمان باسم الله اللطيف قال الشيخ المعيقلي: إن من تلك الآثار مجاهدة النفس على صلاح القلب، فالقلب هو محل نظر الرّب، فبصلاح القلوب تصلح الأجساد والأعمال. فعِلْم العبد أنّ ربه مطّلع على ما في السرائر، محيط بكل صغير وكبير، يَحْمِلُه على محاسبة نفسه في أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته. قال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لقمان:16).

كم في البلايا من عطايا!

     وأضاف، إنّ من آمن باسم الله اللطيف، عَلِمَ أنّ كل مُصاب يأتيه، إنما هو سُلّم يرتقي به لأعلى الدرجات، فكم في البلايا من عطايا! والمحن في ثناياها المنح، ولولا المصائب والابتلاءات ما تاب بعض العاصين من ذنوبهم. واللطيف -جل جلاله وتقدّست أسماؤه- يبتلي عبده المؤمن، ليهذبه لا ليعذبه. وفي سنن الترمذي قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة» صححه الألباني.

التخلق بصفة اللطف

     وعن مقتضيات الإيمان باسم الله اللطيف أكد الشيخ المعيقلي، أن على المرء أن يتصف بصفة اللطف، فالله -تعالى- لطيف ويحب اللطيف من عباده، ويُبغض الفَظّ الغليظ القاسي. وفي الصحيحين قال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بأهل النار؟ قالوا: بلى، قال: كل عُتُلٍ جوّاظ مستكبر» متفق عليه. والعُتُل، هو الفظّ الغليظ الجافي، الشديد الخصومة بالباطل. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس لطفا، وقد زكّاه الله -تعالى- بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:159). واللطف من الرحمة، فلذا اجتمع الناس حوله، ولو كان فظاً لانفض الناس عنه. ومن عامل الخَلْق بصفة يحبها الله ورسوله، عامله الله -تعالى- بتلك الصفة في الدنيا والآخرة، فالجزاء من جنس العمل.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك