رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 8 فبراير، 2021 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – الشيخ فيصل غزاوي: المؤمن سبّاق إلى فعل الخيرات


جاءت خطبة الحرم المكي لهذا الأسبوع للشيخ فيصل غزاوي بتاريخ 16من جمادى الآخرة 1442هـ، الموافق 29/1/2021م، في الحث على المسارعة في الخيرات والمبادرة إلى الصالحات، وقد أورد الشيخ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبِع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبوبكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة»، فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أعلم الصحابة وأفضلهم وأكملهم إيمانا كان سبّاقاً إلى فعل الخيرات مسارعا فيها، وهو مثال يُحتذى به في المبادرات النافعة، وقدوة تُؤتسى في الجِد والسّبق والمثابرة.

هدف يَسعى إليه المرء

     ثم بين الشيخ أنّ النجاح والإنجاز والإنتاج هدف يَسعى إليه المرء، وصفة يتحلى بها المُجِدّ المحافظ على وقته بما يعود عليه بالخير في دينه ودنياه، فيستثمر جهده وطاقته وعمره بما يكون له ثمرة يانعة وحصيلة نافعة، ومما يؤسف له أن يقضي بعض الناس وقته فارغا، ويُمضي عمره عاطلا، فالإهمال عادته والكسل شعاره، لا يراعي الإتقان في عمل ولا يسعى في تحقيق هدف، بل هو راضٍ بالدون، وقاصر عن الإنتاج.

اغتنام الشباب

     وعن الأمور التي يتجلى فيها فَقْد الإنتاج وضياع الغنيمة قال الشيخ: التفريط فيما أرشد إليه النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك». رواه الحاكم والبيهقي، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «شبابك قبل هرمك» توجيه للمرء لاغتنام شبابه؛ لأنه مرحلة نضارة وقوة وحيوية، فيغتنمه في العبادة وأعمال الخير قبل أن يتغير حاله فيكبر ويضعف عن الطاعة ويقل عطاؤه أو يعجز عن العمل.

اغتنام الصحة

     وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وصحتك قبل سقمك» فيه تنبيه على أن صحة المرء وما يجده من قوة ونشاط وعافية في حواسه وقواه فرصة للعمل، لكن هذا الحال لا يدوم. فكم من صحة أعقبها ضعف ووهن ومرض، وكثير من الناس يغتر بصحته وعافيته فتذهب عليه سُدى دون اغتنام، وأشد من ذلك تضييعها في الآثام ثم الندم بعد فوات الأوان.

اغتنام الغنى

     وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وغناك قبل فقرك» فيه حث أن يبذل المرء المعروف وينفق مما أعطاه الله في وجوه الخير وأعمال البر، فما يجده المرء من سعة في المال ووفرة في الرزق لا يدوم ولا يبقى، فيجدُر بالعاقل ألّا يُفتتن بأمواله فإنها زخرف زائل ومتاع قليل.

اغتنام الأوقات

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وفراغك قبل شغلك» فيه توجيه أن يَشْغَل العبد أوقاته بما ينفعه، فمن فرّط في العمل في ساعة الفراغ لم يدركه عند مجيء الشواغل.

اغتنام الحياة

     وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وحياتك قبل موتك» فيه عبرة وعظة، فحياة المرء في هذه الدنيا ليست دائمة بل يعقبها موت، والعاقل حريص على اغتنام حياته في طاعة الله والاستكثار من الزاد، ومما يؤكد أهمية أن يستثمر المسلم وقته وأن يظل عاملا منتجاً إلى آخر لحظة من الحياة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل» رواه أحمد.

المثل الأعلى

     ثم ضرب الشيخ المثل الأعلى في ذكر الاجتهاد في استفراغ الوسع في البذل والعطاء، وقال: تمثل ذلك أول ما يتمثل في قدوة الأنام وإمام الأعلام وسيد الصفوة الكرام محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي بلغ الذروة في تحقيق المطالب العليا والمقاصد السنية، ففي جانب الطاعة والتقوى كان أعبد الناس وأخشاهم لله، حتى أن قدميه الشريفتين تفطرتا من طول القيام. وفي جانب التعليم والدعوة، فهو المثل الأعلى في نصرة دين الله ونفع الأمة ونصحها، ودلالة الناس على الحق وتعليمهم وهدايتهم، وإرادة الخير لهم. كما ضرب - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في الإحسان إلى الناس وبذل المعروف والسعي في قضاء حوائجهم.

نماذج مضيئة

     والمؤمن يجتهد في العمل ويتقن أدائه ويساهم في ميادين العطاء، وهذا ما كان عليه الأخيار الأتقياء الذين صاروا أئمة يُقتدى بهم في الخير، وتركوا آثاراً حسنة بعد مماتهم، وجعل الله لهم في الناس ذكراً جميلاً، وثناءً حسنا باقيا إلى آخر الدهر، ومن تلكم الأمثلة المشرقة والنماذج المضيئة الصحابي الجليل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - الذي لم يعش بعد إسلامه سوى نحو من ست سنين، إلّا أنه قدّم وأنجز ما قد يعجز عن مثله من عاش في الإسلام عمراً طويلاً، حتى نال ذلك الفضل الكبير والشرف العظيم. قال الذهبي -رحمه الله-: وقد تواتر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن العرش اهتز لموت سعد فَرِحاً به.

عطاء بن أبي رباح -رحمه الله

     ومن أولئك الأعلام العِظام عطاء بن أبي رباح -رحمه الله- كان سيد التابعين وعالم الدنيا في زمانه، قال بعض أهل العلم: كان عطاء أسود أعور أفطس أشل أعرج، ثم عمي بعد ذلك، ومما ذُكر في فضائله أنه حج سبعين حجة، وبعدما كبر وضعف كان يقوم إلى الصلاة فيقرأ مئتي آية من البقرة وهو قائم، ما يزول منه شيء ولا يتحرك، وهذا يُعلمنا أنّ المسلم مهما واجه من الابتلاءات والمصائب، فإنه يبقى ثابتاً متجلداً قوياً، لا ييأس ولا يضعف ولا ينطوي على نفسه، ولا يمتنع عن النفع والعطاء.

حمّاد بن سلمة -رحمه الله

     ومن أمثلة أولئك الرجال الأفذاذ حمّاد بن سلمة -الإمام القدوة شيخ الإسلام رحمه الله- مما ذُكر في مناقبه أنه لو قيل له إنك تموت غداُ ما قدر أن يزيد في العمل شيئا. يعني أنه قد بلغ من اجتهاده في اغتنام أوقاته مبلغا عظيما، حتى أنه لا يجد مزيدا من العمل أكثر مما هو منشغل به من الطاعات والقربات. فلله درّه، ما أعظم زاده وإنتاجه وعطاءه! وما أشد خسارة من فرّط في عمره واستهان بوقته فخرج من الدنيا لا أثر له، أو أتى يوم القيامة مفلسا!.

عبدالله بن المبارك -رحمه الله

     ومن أعلام الإسلام ومشاهير الأئمة عبدالله بن المبارك -رحمه الله- جاء في مناقبه وفضله أنه جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والشعر والفصاحة والزهد والورع، والحياء وحسن الخلق وحسن الصحبة والشجاعة والقوة، والسخاء وقيام الليل والخشية والإنصاف، وترك الكلام فيما لا يعنيه. قال بعض العلماء: لا نعلم في عصر ابن المبارك أجلّ من ابن المبارك ولا أعلى منه، ولا أجمع لكل خصلة محمود منه. فهذا يدل على إمامته وجلالته وعلو مكانته، وعظيم إنتاجه. وما أجدر أن ينظر كل امرئ منا في نفسه، ما الذي اكتسبه من مثل هذه الخصال الفاضلة والصفات الحميدة؟

زبيدة بنت جعفر المنصور -رحمها الله

     ومن أمثلة النساء الرائدات المنتجات اللاتي شاركن في مضمار المسابقة لمراتب النجاح والسؤدد زوجة هارون الرشيد زبيدة بنت جعفر المنصور -رحمها الله- كان لها مناقب جمة وفضائل كثيرة، فقد عُرِفت بأنها ذات عقل ودين ورأي، وفصاحة وبلاغة، واشتهر عنها محبتها للخير والإفضال على أهل العلم، والعطف على الفقراء والمساكين، وكانت سخية تبذل النفيس في سبيل الله، ولا أَدَل على هذا من إنشائها عين الماء العذبة الشهيرة عين زبيدية.

سِيَر الجادّين

     ثم أكد الشيخ أن مَن أراد أن تعلو همته، وتسمو عزيمته، ويزداد عطاؤه، فليتأمل في سير الجادّين المنتجين وحياتهم الذين تأصّل فعل الخير في نفوسهم، وسَمَت إلى الفضائل هممهم، فكان لهم القدح المُعلى من السعادة والنجاح والفلاح، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

ما أعظم أولئك المبادرين!

     ثم بين الشيخ حال المبادرين فقال: ما أعظم شأن أولئك المبادرين في العمل المنتجين المجتهدين الذين قدّموا وأنجزوا وبلغوا شأناً بعيدا وتركوا أثرا كبيراً! فمنهم من دعا إلى الله فاهتدى على يديه خلق كثير، ومنهم من أسلم على يديه فئام من الناس، ومنهم من بنى كثيرا من المساجد ودور العلم، ومنهم من تتلمذ على يديه عدد كبير من طلاب العلم، ومنهم من تَخَرّج على يديه أجيال من حفظة كتاب الله، ومنهم من صنّف مصنفات نفيسة قيّمة في مختلف العلوم والفنون، ومنهم من أنشأ العديد من دور الرعاية ودور علاج المرضى، ومنهم من أنشأ أوقافاً كثيرة منها ما خُصّصَ للمنافع العامة ومنها ما يخدم أصحاب الحاجات، ومنهم من عُرِف بالإصلاح بين الناس وفضّ النزاع والشقاق بين المتخاصمين والتأليف بين قلوبهم، ومنهم من عالج كثيراً من المشكلات والقضايا المختلفة، ومنهم من حاز قَصَبَ السَّبْق في إغاثة اللهفان، فهؤلاء وأمثالهم قد سعوا في إنتاج ما يَعْمر الأرض ويحييها ويصلحها اتباعا لأمر الله في قوله سبحانه {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} ورغبة في ثوابه {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}. فمهما فعلوا من خير وجدوا ثوابه عند الله وافرا موفرا.

المؤمن ذو عمل ونشاط وهمة

     ومما يُستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم - الوارد في الصحيح «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز» أن يكون المؤمن دائما ذا عمل ونشاط وهمة وإقبال ومثابرة، يبذل ويَجِد ويُقدّم ويُثمر ويُنجز ويُنتج ويُصلح ويَنفع ويسعى إلى المجد ويطلب معالي الأمور ويُدرك رِكاب السابقين إلى ربهم، وفي المقابل يقبح بالمرء أن يكون ضعيفاً سلبيا فاشلا خاملا عاطلا مهملا مضيعا واجبه، متراخيا متباطئا في إنجاز عمله، لا يُرجى من ورائه نفع، ولا يُنتظر منه بذل ولا عطاء.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك