رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 17 أبريل، 2021 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – الشيخ بندر بليلة: الإيمان أعظم نعمة في هذه الدنيا

 

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 20 من شعبان 1442هـ - الموافق 2/4/2021م للشيخ بندر بليلة متحدثًا فيها عن نعمة الإيمان وأنها أعزّ ما يؤتى المرء في هذه الدنيا، فالإيمانٌ بالله ورسوله، يُبَلّغ المرء المقامات العليّة، ويبوئه المنازل السرية، فإذا منّ الله على عبد مِن عبيده بهذه النعمة فلا يضره ما فاته فقد وجد الخير أجمعه، والسّعد أوسعه، والكمال أرفعه، وهو منة شريفة ما أجلّها، قال -سبحانه-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. وقال -سبحانه-: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. فامتن -عز وجل- بالإيمان على أهل الإيمان أعظم الامتنان.

الإيمان عزيز

     وأكد الشيخ بندر بليلة أنه لمّا كان هذا الإيمان عزيزا، وكان عرضة لأن يقوى ويضعُف، ويزيد وينقص، ويشتد ويلين، ويتجدد ويخلق، ويذبل ويورق، كان على المؤمن أن يتفقد إيمانه ويتعاهده بالرعاية ويُجدده بالطاعة ويحفظه من النقصان بترك المعاصي ومجانبة الشهوات، والعدول عن مهاول الأهواء والفتن، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الإيمان ليَخْلَق في جوف أحدكم كما يَخْلَق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد إيمانكم» رواه الحاكم في مستدركه.

أسباب زيادة الإيمان

     وعن أسباب زيادة الإيمان قال إمام الحرم: حتى لا تعصف بالإيمان رياح الباطل فتبلى مادته في نفس العبد، ويَذبل شعاعه في فؤاده، وينطفئ نوره في صدره؛ فإن الله -عز وجل- قد جعل له أسبابًا تُنَمّيه وتُقَوّيه، وتحفظه وتزيده، وتجلو غشاوته، وتكشف ظلامته. فإذا أراد العبد سعادة نفسه وهناءتها فليعرف أسباب زيادة الإيمان، وليكن عليها أشد حرصًا منه على أعز محبوباته، فإنها منابع للخير، وموارد للطهر.

تدبر القرآن

     أول أسباب زيادة الإيمان ذكرها الشيخ بندر هي تدبر القرآن، وأكد أن من أظهر أسباب زيادة الإيمان، قراءة القرآن بالتدبر، والنظر في مثاني آياته بالتفكر، فإنّ القرآن كلام الله -جل جلاله- وهو الطريق إليه والمُعَرّف بأسمائه وصفاته، والكاشف عن شرائعه وأحكامه، يزداد المُقبل عليه إيمانا، ويزداد المُعْرِض عنه حسرةً وخسارةً وهوانا، قال -سبحانه-: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. وقال -سبحانه-: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

للمؤمن حظ وافر

     وأضاف، إنّ للمؤمنين مِن هذا الكتاب لأَوْفَر حظ، وإنّ أثره عليهم لأكرم أثر، فاقرأ إن شئت قوله -جل وعلا-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }. وقوله -جل وعلا-: {إِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}.

الملك كله لله

     وعن ثمرات تدبر القرآن وتلاوته قال الشيخ بندر، لا جرم أنّ من يقرأ كتاب الله ويتدبر آياته، يجد فيه من العلوم والمعارف ما يُقَوي إيمانه ويزيده وينميه، ذلك أنه يجد فيه مَلِكًا له المُلك كله، وله الحمد كله، أَزِمّة الأمور كلها بيده، ومصدرها مِنْه ومردها إليه، مستويًا على عرشه، لا تخفى عليه خافية، عالمًا بما في نفوس عَبيده، مطّلعا على أسرارهم وعلى نياتهم، يسمع ويرى، ويُعطي ويمنع، ويُثيب ويُعاقِب، ويُكرِم ويُهين، ويَخلق ويَرزق، ويُميت ويُحيي، ويٌقَدّر ويقضي ويُدبّر. ينصح عباده، ويَدُلّهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويُحذّرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه، فيُذكّرهم بها ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها. ويُحذّرهم من نِقَمِه، ويُذكّرهم بما أعدّ لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعدّ لهم من العقوبة إن عصوه، يدعو إلى دار السلام ويَذْكر حُسنها ونعيمها، ويُحذّر من دار البوار ويذكُر عذابها وقبحها وآلامها، ويُذكّر عباده فقرهم إليه، وشِدة حاجتهم إليه، وأنه لا غنى لهم عنه طرفة عين، يُعاتب أحبابه ألطف عتاب، ويُقيل عثراتهم، ويغفر زلاتهم، ويدافع عنهم وينصرهم، وينجّيهم من كل كرب، ويوفي لهم بوعده، فهو مولاهم الحق ونصيرهم، فنِعْمَ المولى ونِعْمَ النصير، فإذا شهدت القلوب من القرآن مَلِكًا عظيمًا رحيمًا جوادًا جميلًا هذا شأنه، فكيف لا تحبه وتنافس في القُرْبِ منه، وتُنفق أنفاسها في التودد إليه، وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والأنس به غذاءها ودواءها.

أنفع شيء للقلب

     قال ابن القيم -رحمه الله-: «وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتَدَبُّر والتَفَكُّر فإنه جامع لجميع السائرين، وهو الذي يورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل، والرضا والتفويض، والصبر والشكر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها».

معرفة الرب -تبارك وتعالى

     وذكر الشيخ بندر أن أشرف أسباب زيادة الإيمان هي معرفة الرب -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فإن مَن عَرَفَه -سبحانه- بها أحبَّه وسار بها إليه ودخل بها عليه، قال -تعالى-: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون}، فإذا علم العبد بتفرد الرب تبارك وتعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، فإن ذلك يُثمر له عبودية التوكل باطنا وظاهرا. وإذا علم أنه -سبحانه- سميعٌ بصير، عليمٌ لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإن هذا يُثمر له حفظ اللسان والجوارح وخطرات القلب عما لا يرضي الله، وإذا علم أن الله غني كريم، برٌّ رؤوف رحيم، واسع الإحسان، فإن هذا يُحقق له قوة الرجاء، والرجاء حاد إلى أنواع كثيرة من العبادات الظاهرة والباطنة. وإذا علم بكمال الله وجماله، أوجب له هذا محبة خاصة وشوقا عظيما إلى لقاء الله، وهذا يوقفه على أنواع من التعبد له -سبحانه- والرغبة إليه -عز وجل.

الإحاطة بأسماء الله -تعالى

     ثم أكد إمام الحرم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رغّب ترغيبًا خاصًا في الإحاطة بهذه الأسماء حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ لله تسعة وتسعين اسما مئة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة» متفق عليه، أي من حفظها وفهم معانيها واعتقدها وتعبد لله بها دخل الجنة، والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون، فعُلِم أنّ ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته، فصارت معرفة الأسماء الحسنى أصل الإيمان، والإيمان يرجع إليها، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: أي إنما يخشاه حقّ خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة بالعظيم العليم، الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى أتم، كانت الخشية له أعظم وأكثر. وقال بعض السلف: من كان بالله أَعْرَف كان منه أَخْوَف.

التأمل في محاسن هذا الدين

ثم بين الشيخ بندر بليلة أن من أعظم الأسباب المُعينة على زيادة الإيمان أيضًا، التأمل في محاسن هذا الدين، والتعرف على كمال شريعته وصفاء عقيدته، وجمال أخلاقه وآدابه، وعلو نظامه ومقاصده، وشريف حِكَمِه ومصالحه العاجلة والآجلة، فإنها لتنادي بأنها شريعة أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.

     قال ابن القيم -رحمه الله-: فإذا تأملت الحكمة الباهرة في هذا الدين القيّم، والملة الحنيفية، والشريعة المحمدية، التي لا تنال العبارة كمالها، ولا يُدرك الوصف حُسنها، ولا تقترح عقول العقلاء ولو اجتمعت على عقل أكمل رجل منهم فوقها. وحسْب العقول الكاملة الفاضلة أنْ أدركت حُسنها وشَهِدت بفضلها، وأنه ما طرق العالَم شريعة أكمل ولا أجلّ ولا أعظم منها، فهي نفسها الشاهد والمشهود له، والحجة والمحتج له، والدعوة والبرهان ولو لم يأت المُرسَل ببرهان عليها لكفى بها برهان وآية، وشاهدًا على أنها من عند الله، وكلها شاهدة له بكمال العلم، وكمال الحكمة، وسعة الرحمة والبر والإحسان، والإحاطة بالغيب والشهادة، والعلم بالمبادئ والعواقب، وأنها من أعظم نِعَمِه التي أنعم بها على عباده.

بصائر الناس ثلاثة

ثم بين الشيخ بندر أن الناس وبصائرهم تجاه هذا النور التام على ثلاثة أقسام:

مَنْ عَلِمَ بصيرة الإيمان جُملة

- أحدها: مَنْ عَلِمَ بصيرة الإيمان جُملة، فهو لا يرى من هذا الضوء إلا الظلمات والرعد والبرق، فهذا القسم هو الذي لم يرفع بهذا الدين رأسًا، ولم يَقْبَل هدى الله الذي هدى به عباده ولو جاءته كل آية.

أصحاب البصائر الضعيفة

- والثاني: أصحاب البصائر الضعيفة، فهم تَبَعٌ لآبائهم وأسلافهم، دينهم دين العادة والمنشأ. وهم الذين قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «أوْ منقاد للحق لا بصيرة له في أحنائه». فهؤلاء لو كانوا منقادين لأهل البصائر لا يتخالجهم شك ولا ريب، فهم على سبيل نجاة.

أصحاب البصائر النافذة

- والثاني: أصحاب البصائر الضعيفة، فهم تَبَعٌ لآبائهم وأسلافهم، دينهم دين العادة والمنشأ. وهم الذين قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «أوْ منقاد للحق لا بصيرة له في أحنائه». فهؤلاء لو كانوا منقادين لأهل البصائر لا يتخالجهم شك ولا ريب، فهم على سبيل نجاة.

- أما الثالث: وهم خلاصة الوجود ولُباب بني آدم وهم أصحاب البصائر النافذة، الذين شهدت بصائرهم هذا النور المبين، فكانوا منه على بصيرة ويقين ومشاهدة لحُسنه وكماله؛ بحيث لو عُرِض على عقولهم ضدّه لرأوه كالليل البهيم الأسود.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك