رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 14 ديسمبر، 2020 0 تعليق

خطبة الحرم المكي الشيخ الشريم: الفساد المالي خيانة للأمانة وخراب للمجتمع


تناول الشيخ سعود الشريم في خطبة الجمعة التي ألقاها بتاريخ 19 ربيع الثاني الموافق 4 من ديسمبر 2020 موضوع الفساد المالي، والفساد الإداري محذرًا من خطورتهما على المجتمع المسلم واصفًا إياهما بأنهما طاعون الاقتصاد والإدارة، وسرطان الضمائر والذمم والأخلاق، وحالقة المُقدّرات والمكتسبات والحقوق.

     وأضاف الشيخ الشريم قائلاً: إنه ما من مجتمع من مجتمعات أمتنا إلا قد رام ذووه نموا مالياً ينهلون من معينه، وتنظيما إداريا يُحَلّق بهم في جو التقدم والجِدّ والنجاح، فإن المال شريان الحياة، والإدارة أقنوم الانضباط، وإنه متى تعانقت النزاهة المالية والتجرد الإداري سُدّت بهما ثُلمة فساد المال وثُلمة فساد الإدارة، وأبحرا بسفينة المجتمع الماخرة إلى شاطئ التوازن والاكتفاء والأمانة، وتقديم منفعة الصالح العام على المنافع الذاتية.

شِرعة الإسلام السمحة

     ثم بين الشيخ الشريم سماحة الشريعة الإسلامية؛ فقال: من تأمل شِرعة الإسلام السمحة، وجد فيها ما يعين الناس على أمور دينهم ودنياهم، ووجد فيها ما يُصلِح العلاقة بين العبد وربه، وما يُصلحها بين العبد ومجتمعه، فلا انتكاس بين تلك العلاقات؛ إذ كل صلاح فيها محمود، وكل فساد فيها مذموم، وإذا كانت العلاقة بين العبد وبين ربه مبنية على المسامحة، فإن العلائق الدنيوية بين العباد بعضهم بعضا مبنية على المشاحة، ولدرء تلك المشاحة ودفعها جاءت شريعة الإسلام بمكافحة الفساد الإداري والفساد المالي، الذيْن إذا نخرا في مجتمع ما قوَّضا بناءه، وأفسدا مزاجه، وأحدثا فيه من الإرباك والترهل والعجز ما هو ماثل لكل رامق دون مواربة.

طاعون الاقتصاد

     ثم أكد الشريم على أنه لا يشك عاقل البتة أن الفساد المالي، والفساد الإداري هما طاعون الاقتصاد والإدارة، وسرطان الضمائر والذمم والأخلاق، وحالقة المُقدّرات والمكتسبات والحقوق، وأنّ النتاج الإيجابي للمجتمعات الواعية التي تنشد الرقي والسمو بطاقاتها وثرواتها، مرهون بمدى تحقيقها بمبدأ الأمانة في الإدارة، ومبدأ النزاهة في المال، والنزاهة دون ريب، صفة فاضلة لا يختلف فيها اثنان. وهي مُرَكّبة من عزة النفس، والعدل، والقناعة، وقلة الطمع، التي بمجموعها تُسيّد الأمانة الذاتية لدى الشخصية الفردية، والشخصية الجماعية، والشخصية الاعتبارية.

سوء استعمال النفوذ العام

     وعن توصيفه للفساد المالي والإداري قال الشيخ الشريم: الفساد المالي بأخصر عبارة، سوء استعمال النفوذ العام من قِبَل مَن كلّفه ولي الأمر لمصلحة العباد، وذلك بإحلاله خدمة تبادل المصالح الخاصة محل خدمة الصالح العام، ففي الفساد المالي، إهدار للمال العام الذي أؤتمن عليه، وإهمال جعل الأولوية في استعمال صرفه في مجالاته، التي وكّل به المؤتمن عليها من قبل ولي أمر الناس وسلطانهم.

حال الناس مع المال

     وعن حال الناس مع المال قال الشيخ الشريم، الناس في ذلكم المال ضربان، أحدهما يأخذه باسم السرقة والاختلاس لا يبالي، بل يرى أنها فرصة سانحة له، لا تقبل الترك أو التسويف، والضرب الآخر يتأوله ليخرج به من اسم السرقة والاختلاس إلى إدراجه تحت اسم الهدية أو الأتعاب أو التسهيلات ونحو ذلكم. ومهما كسا الفاسد فساده ذلك بأنواع الذكاء واللبوس البراق، وسماه بغير اسمه، فإن ذلك كله لن يواري سوءته، ولن يغير من حقيقته شيئا.

إهدار الفرص

     وأضاف، في الفساد الإداري، تبرز غائلته ظاهرة في إهمال جعل الأولوية الإدارية في التسهيل على الناس والتميز والإنجاز، بل يجتال الفاسد فيها إهدار الفرص عن ذوي الكفاءات وتفشي روح الانتهازية وبذل النفوذ؛ ليصبح التعامل مع الفرد بمقدار ما يحمله من علاقة وصلة ومصلحة شخصية، لا بما يحمله من قدرة وأولوية وكفاءة. وكل ذلكم مُؤذِن بالتراجع الإيجابي للمجتمع، والغَبن، وغياب الإخلاص في العمل والأداء، حال كونه حاجبًا أي إبداع وتطور وابتكار، ومِن ثَمّ ينعكس على المصلحة العامة بالسلب والفشل، إلى أن يشعر الفرد بسبب ذلكم كله أنه لا فرصة له في نَيْل غاياته دون مشاغبات إدارية، من محاباة، وتقاطع مصالح، تُغلق الطريق أمام الذين هم أكثر استحقاقاً منه، حتى إن المتضرر من جراء ذلكم لا يستطيع إتمام حاجته إلا بها، ولا السفر إلا بها، ولا الدراسة إلا بها، ولا التجارة إلا بها، ولا العلاج إلا بها، ولا تخليص الأعمال إلا بها.

إتلاف المال العام

     ثم أكد الشيخ الشريم على أنه لو أن هؤلاء الأذكياء صرفوا ذكاءهم فيما ينفع مجتمعهم، ويبرئ ذممهم، لكانوا من عباقرة المجتمعات وبُناتها، لا من معاول خلخلتها وهدمها، فقُبحاً لأفئدة لا تحمل إلا تلكم المفاهيم الضارة المضرة، وهي من الخيانات العظيمة لله -جل شأنه-، ثم لولي الأمر الذي ائتمنهم على المال والإدارة؛ لأن الفساد المالي إتلاف للمال العام، والفساد الإداري إتلاف للعدالة الاجتماعية العامة، والله لا يحب الفساد.

     ثم اعلموا - يا رعاكم الله - أنّ لُبّ ما مضى بكم، يُفهمنا أن الفساد كلمة تلفظها الألسن السوية، والأسماع النقية، وهو ضد الصلاح، ونار محرقة تأكل النمو والتقدم، فتذر اقتصاد المجتمعات وإداراتها هشيما تذروه الرياح، هشيما تذروه رياح ذوي الذمم الخداد، والنفوس الخلية من الوازع الديني.

أسباب انتشار الفساد

     كما بين الشيخ الشريم أن الفساد المالي والإداري ينتشر بانعدام شعور الأفراد بواجبهم تجاه الصالح العام، فلم يجعلوا من أنفسهم مرآة لجهات الرقابة والنزاهة ومكافحة الفساد، ولم يكلفوا أنفسهم أن يحتسبوا في الإبلاغ عن الفاسدين، لجهات المكافحة المعنية، ولا جرم أن التخاذل وإيثار السلامة في كشفه والتبليغ عنه، سبب ظاهر في طول عمر الفساد، وازدياد وزنه، ومن ثَمّ تخمته، فإن المرء إذا أكثر من استنشاق الفساد المالي والإداري وقع في الإدمان، فلا يغنيه استنشاق الهواء النقي، فيظل يبني مصالحه على صورة انتهازية بعبارة (خذ وهات)، وربما بلغ به الجشع مبلغا لا يعرف من خلاله إلا عبارة (هات وهات) فيملأ جيبه، ويواري عيبه، ويمسي كالنهم، يأكل فلا يشبع، أو كمن يشرب الماء المالح، لا يزداد بشربه إلا عطشا. فإن هؤلاء وأمثالهم، لم يلامس الوازع الديني شغاف قلوبهم، فلم يرهبهم وعيد القرآن، ولم تحجزهم محاذير السنة، فحُقّ لمثلهم أن يَصِحّ فيهم ما ذكره مالك في المدونة أنّ عثمان - رضي الله عنه - قال: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، قال ابن القاسم: قلت لمالك ما معنى يزع، قال: يكف».

لابد للناس من وازع

     وأضاف، قال الله -جل شأنه-: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}، أي يُمنعون، ويُدفعون، ويُرَدّ أولهم على آخرهم. قال بعض كبار المفسرين: في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وَزَعَة يَكُفّونَ الناس، ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض، وقال الحسن البصري: لابد للناس من وازع أي من سلطان يكفهم. من أجل ذلكم أيها الناس جعل الله على عاتق من ولاه أمر المسلمين القضاء على الفساد، واجتثاث جذوره، ودفعه بحزم وعزم، فإن ذلك مهمة دينية، وتبعة وطنية، وحماية للمال العام ومكتسباته، ومنعا للتكسب غير المشروع، الذي ينافي ما جاء به ديننا الحنيف، في آداب العمل وطلب الرزق؛ فإن الذمة حلالها حساب، وحرامها عقاب، والله -جل وعلا- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}.

الانضباط المالي والإداري

ثم أكد الشيخ الشريم على أن الانضباط المالي والإداري، بالنسبة للمجتمعات كجناحي الطائر لا يستقيم طيرانه إلا بهما، وإنه متى اختل الجناحان أو أحدهما فحتمية السقوط ما منها بد ولات حين طيران مستقر.

المكلف بمال أو إدارة

     وأضاف، لأجل ذلكم، كان لزاما على المكلف بمال أو إدارة، أن يهيئ نفسه على استحضار توازن الجاد بين رغباته وأداء عمله، وألا يجعل الشبهات تلج عليه من خلالهما، وأن يدرك أن من أهم سبل السلامة المالية والإدارية، إعمال مبدأ الحوكمة، التي لا تترك للتفرد سبيلا يوقعه فيما لا يُحمد.

الفساد والرشوة

     وبما أن الفساد المالي لا يقوم إلا على راشٍ ومرتشٍ ورائش، فإنه قد ورد فيهم اللعن، وما ورد فيه لعن، فهو كبيرة من كبائر الذنوب، كما قرر ذلك عامة أهل العلم المعتبرين، فقد جاء عند الترمذي وأبي داوود «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لعن الراشي والمرتشي»، وفي رواية أخرى «والرائش»، وهو الذي يمشي بينهما. وقد استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا على صدقات بني سُليم يُدعى ابن اللُتْبيّة، فلما جاء حاسبه قال: «هذا مالكم وهذا هدية؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهلّا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟! ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولّاني الله فيأتي فيقول هذا مالكم وهذا هدية أُهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفنّ أحداً منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يده حتى رُؤي بياض إبطه يقول: اللهم هل بلغت». رواه البخاري بهذا اللفظ.

      وروى مسلم أيضا عن عدي بن عميره الكندي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه، كان غلولا يأتي به يوم القيامة»، وعن أبي حُمَيد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هدايا العمال غلول» رواه أحمد. ولقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلا: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك