رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 6 فبراير، 2023 0 تعليق

خطبة الحرم المكي – التحذير من سوء الظن وعواقبه

 

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 5 من رجب 1444ه، الموافق 27 يناير 2023 بعوان: (التحذير من سوء الظن وعواقبه)، ألقاها الشيخ ماهر المعيقلي، واشتملت الخطبة على عدد من العناصر كان أهمها: دعوة الشريعة الإسلامية لكل ما يزيد الألفة والمودة، وبعض حقوق المسلم على أخيه المسلم، والعواقب الوخيمة لسوء الظن، وبعض الأسباب المعينة على حسن الظن بالآخرين، وعلى المسلم أن يتقي مواضع التهم صيانة لسمعته.

     في بداية الخطبة بين الشيخ المعيقلي أنَّ الشريعة الإسلامية دعت إلى كلِّ ما يُحقِّق معنى الأُخوَّةِ، ويَزِيدُ في الأُلفةِ والمودةِ، ورتَّبَتِ الأجرَ والمثوبةَ عليه، ونهَتْ عن كلِّ ما يؤدِّي إلى الضغينة والفتنة، وسدَّت الطرقَ المفضِيةَ إليه، فمِنْ جُملة ما حذَّرَت الشريعةُ منه: سوءُ الظّن؛ وهو التهمةُ بلا دليلٍ ولا بينةٍ، والظنُّ السيءُ لا يُغني من الحق شيئًا، قال جلَّ وعلَا: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}(يُونُسَ: 36)، وأمَر -سبحانه- باجتنابِ كثيرٍ من الظنِّ؛ احترازًا من الوقوعِ في الإثمِ، فكَمْ أوقَع سوءُ الظنِّ، مِنْ فِراقٍ بينَ المتحابينَ، وخلافٍ بينَ المتشارِكينَ، وفسادٍ للعِشْرةِ، وانقطاعٍ للصحبة.

حقَّ المسلم على إخوانه

     إنَّ حقَّ المسلم على إخوانه، أن يُظن به خيرًا، وأن يوثق به ويؤتمن، ولا يظن به سوءًا ولا يُخوَّن، ما دام الخيرُ ظاهرًا على أخلاقه، وأماراتُ الثقةِ باديةً على طباعه، فمَن شُوهد منه السترُ والصلاحُ، وأُونِسَتْ منه الأمانةُ والفَلاحُ، فظنُّ الفسادِ به والخيانةِ محرَّمٌ، ومَنْ ظنَّ به سوءًا فهو آثمٌ، وإنَّ مِنْ ثمراتِ حُسنِ الظنِّ أنَّه يُفضي إلى راحةِ البالِ وطمأنينةِ النفسِ، وسعادةِ القلبِ، وسلامةِ الصدرِ، وفيه امتثالٌ لأمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ!؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»(رواه البخاري ومسلم).

الأصل في المسلمِ السلامةُ

     إنَّ الأصلَ في المسلمِ السلامةُ، ولا يُعدَل عنها إلا بيقينٍ، وليس من منهج الصالحين، تتبُّع العورات، والبحثُ عن الزلات والسقطات، والفرحُ بالعَثَرات، وسوءُ الظنِّ بالمسلمينَ، فمن تلك سجيتُه، عرَّض نفسَه لغضب الله وسخطه، وخزيه وفضيحته؛ ففي سُنن الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تؤذوا الْمُسْلِمِينَ ولا تعيروهم، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ تتبع عورة أخيه المسلم تتبَّع اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تتبَّع اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ ولو في جوف رحله».

من يُعامِلُ الناسَ بالظنون الكاذبة حاقد

     إنَّ من يُعامِلُ الناسَ بالظنون الكاذبة، حريٌّ أن تجتمعَ فيه الأحقادُ والضغائنُ، فتشوّش عليه قلبَه، وتنغِّص حياتَه، فتصبح معيشتُه ضنكًا، وبصيرتُه عمياءَ، يلجأ إلى تأويلاتٍ وتخريصاتٍ، وتحليلاتٍ وتفسيراتٍ، ويدَّعِي أنَّ ذلك حصافةٌ وفطنةٌ، وما علم أنَّه ضَرْبٌ من العَبَثِ بالنِّيَّاتِ، ولا يزال المرءُ يستجيب لسوء ظنِّه، فيُعَيِّب الناسَ بذِكر مساوئهم وزلَّاتِهم، ويُقبِّح أحوالَهم، حتى يرى أنهم قد فسَدُوا وهَلَكُوا، والحقيقة أنَّه أسوءُ حالًا منهم؛ بما يَلحَقُه من الإثمِ في عَيبِهم والوقيعةِ فيهم، وازدرائهم واحتقارِهم، وتفضيلِ نفسِه عليهم، ففي صحيح مسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ»، وإذا كان المرءُ لَيَصْعُبُ عليه معرفةُ نيتِه في عمله، فكيف يتسلَّط على نيَّات الخلق؟!

مَنْ أراد النجاةَ

     فمَنْ أراد النجاةَ: ظنَّ السوء بنفسه، واجتَهَد في إصلاح قلبه، وتزكية نفسه، وسلامة صدره؛ واشتَغَل بعيوبِه عن عيوب غيره، دخَل رجلٌ على أبي دُجانة - رضي الله عنه-، وهو في مرضه الذي مات فيه، ووجهُه - صلى الله عليه وسلم - يتهلَّل ويقول: «ما مِنْ عملٍ أَوْثقُ عندي مِنْ شيئينِ: لا أتكلَّمُ فيما لا يَعنِينِي، وقد كان قلبي سليمًا»، وذكر البيهقي في مناقب الإمام الشافعي -رحمه الله- أنَّه قال: «مَنْ أحبَّ أن يُقضى له بخير، فليُحسِنْ بالناس الظنَّ».

حرمة المؤمن وحسن الظن به

     ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكِّر أصحابَه بعِظَم حرمة المؤمن، وحسن الظن به؛ ففي سنن ابن ماجه، عن ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله علي- يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: «مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا»، وكان يُربِّيهم - صلى الله عليه وسلم -، على سدِّ منافذِ الشيطانِ، ونزعِ فتيلِ سوءِ الظنِّ؛ ففي الصحيحينِ: عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ، أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ»، وجاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-، وقد دخَلَتْه الريبةُ، وأحاطَتْ به ظنونُ السُّوءِ بزوجتِه؛ لأنَّها ولدَتْ غلامًا ليس على لونها ولا على لونه، فأزال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- ما في قلبه، بسؤاله عن لونِ إبِلِه، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم-: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «مَا أَلْوَانُهَا؟» قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» -والأوْرَقُ من الإبل: هو الذي في لونه بياضٌ إلى سواد-، قَالَ الرجل: نَعَمْ، قَالَ: «فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ؟»، قَالَ: أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ، فقَالَ - صلى الله عليه وسلم-: «فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ»(رواه البخاري ومسلم).

أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟

     وغَضِبَ - صلى الله عليه وسلم-، على أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-، عندما قتَل مَنْ قال: لَا إلهَ إلَّا اللهُ، متأوِّلًا في نيتِه؛ ففي (صحيح مسلم): قال  صلى الله عليه وسلم لأسامة: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟!»، أَيْ: إِنَّمَا كُلِّفْتَ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ، وَأَمَّا الْجَنانُ، فَلَيْسَ لَكَ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِيهِ، فالْأَحْكَامُ يُعْمَلُ فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ، وَاللَّهُ -جلَّ جلالُه- يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وفي الرواية الأخرى: دَعَاهُ - صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «لِمَ قَتَلْتَهُ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا، وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: «وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»، قَالَ: فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: «كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟».

الأسباب المعينة على إحسان الظنِّ بالآخَرِينَ

     إنَّ من الأسباب المعينة على إحسان الظنِّ بالآخَرِينَ، حَمْلَ كلامِهم وأفعالِهم على أحسنِ المحاملِ، والتماسَ الأعذارِ لهم، وقد كَثُرَتْ أقوالُ السلفِ، في الثناء على حُسن الظن والحث عليه، قَالَ الفاروق - رضي الله عنه -: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَسْمَعُ مِنْ أَخِيهِ كَلِمَةً يَظُنُّ بها سُوءًا، وَهُوَ يَجِدُ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ مَخْرَجًا»؛ فالمسلم يحمل ما يصدر عن إخوانه من قول أو فعل، على محمل حسن، ما لم يتحول الظن إلى يقين جازم؛ فالله -عز وجل- أمَرَنا بالتثبُّت فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(الْحُجُرَاتِ: 6)، فالأصلُ أنَّنا نُحسِن الظنَّ بالناس، ما لم يتبيَّنْ بالقرائنِ خلافُ ذلك، ممَّن عُرفوا بالسوءِ والشرِّ؛ ففي مسند الإمام أحمد: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «مَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمْ خَيْرًا ظَنَنَّا بِهِ خَيْرًا، وَأَحْبَبْنَاهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمْ لَنَا شَرًّا، ظَنَنَّا بِهِ شَرًّا، وَأَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ».

اتقاء مواضع التُّهَم

     فكما نُهِيَ المسلمُ عن سوء الظنِّ بإخوانه، فهو مأمورٌ بأن يتَّقي مواضعَ التُّهَم؛ صيانةً لقلوب الناس عن سوء الظن به، ولألسنتِهم عن الغِيبة له، ففي الصحيحين، عَنْ صَفِيَّةَ -رضي الله عنها وأرضاها- قالت: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِيَ لِيَقْلِبَنِي، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى رِسْلِكُمَا؛ إِنَّهَا صَفِيَّةُ»، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا»؛ فلذلك أُمِرَ المسلمُ إذا سافَر في رمضانَ، بأَنْ لَا يُجاهِرَ بفِطرِه أمامَ الناس، وإذا صلَّى فرضَه، وجاء لجماعةٍ يُصَلُّونَ، فإنَّه يُصلِّي معهَم وتكون له نافلةً؛ ففي مسند الإمام أحمد، عن جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- حَجَّتَهُ، قَالَ: فَصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلَاةَ الْفَجْرِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ، فَقَالَ: «عَلَيَّ بِهِمَا»، فَأُتِيَ بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، قَالَ: «مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟»، قَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: «فَلَا تَفْعَلَا، إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ، فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ».

 

عناصر الخطبة

- دعوة الشريعة الإسلامية لكل ما يزيد الألفة والمودة

- بعض حقوق المسلم على أخيه المسلم

- العواقب الوخيمة لسوء الظن

- الأسباب المعينة على حسن الظن بالآخرين

- على المسلم أن يتقي مواضع التهم صيانة لسمعته

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك