رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: نور الدين بوكرديد الجزائري 8 سبتمبر، 2014 0 تعليق

خطاب المصالحة في القرآن الكريم(2) المصالحة بين أبناء الشعوب الإسلامية ضــــرورة دينيـــة وإنســـانيـــة

استكمالا لما بدأناه في العدد السابق في الحديث عن اهتمام القرآن الكريم بالمصالحة وعَدَّها الحل الأمثل والنافع والناجع لحل كثير من النزاعات والخلافات التي تمر بالأمة ، وأن القرآن حث عليها وعَدَّ التمسك بها من فضائل الأعمال، نتكلم اليوم عن أهمية إصلاح ذات البين ودور المجتمع ومؤسساته في تحقيقها وأساليب الإصلاح .

الفرع الأول: أهمية إصلاح ذات البين: تظهر أهمية إصلاح ذات البين فيما يلي: (1)

1- تخفيف العبء عن القضاء: قد يتم الصلح بين الخصوم قبل رفع الدعوى أمام القضاء، وهذا العمل يخفف العبء عن العاملين في مجال القضاء الرسمي.

2- تخفيف العبء عن الخصوم: إن إنهاء النزاع بين الخصوم صلحاً فيه تخفيف كبير عنهم، وذلك من خلال إجراءات الترافع بجلسة أو جلستين وسهولتها وإنهائها، أما ما يجري في المحاكم فيها كثير من التعقيد والمشقة كما أنها تستغرق وقتاً وجهداً وتكاليف باهظة وفي هذا مشقة وتعب واستنزاف لجهودهم، وأموالهم.

3- تحقيق العدالة: إن حسم الخلاف بين طرفي النزاع عن طريق الصلح أدعى إلى الإنصاف وأدنى إلى تحقيق العدالة؛ حيث إن المتخاصمين أعلم من غيرهم بمعرفة استحقاق كل منهم فيما يدعيه، أو فيما يُدعى عليه؛ لأن كلا منهما يعلم في قرارة نفسه أين الحق، ولمن هو الحق المتنازع عليه.

4- نشر الوعي الاجتماعي: ذلك أنه يستأصل شأفة الخصومة، ويؤلف القلوب المتنافرة، ويضع حداً لما تتركه الخصومات من أحقاد في النفوس، وضغناء في الصدور.

5- إشاعة السلام بين أفراد المجتمع: عندما يصطلح الناس، وتزال العداوات والمخاصمات فيما بينهم، ويحل الوفاق محل الخلاف، عند ذلك يأمن الناس بعضهم بعضاً، ويحلّ السلام الاجتماعي بين أفراد المجتمع.

6- تأليف القلوب: لا شك أن الخصام يفرق المتاحبين، ويعمق بينهم العداوة والخلاف، وتتنافر القلوب وتتباغض، فعندما يتم الإصلاح والتصالح على أسس العدل، وقيم القسط وإحقاق الحقوق والتصافح، والتغافر والتراحم، تتآلف القلوب.

الفرع الثاني: دور المجتمع ومؤسساته في إصلاح ذات البين: (2)

أ- الأسرة: فالبيت إن أحسن فيه تربية الأبناء، فإن المجتمع الكبير سيستقبل الأعضاء الذين يحسنون إدارة دفة الحكم وتوجيهها فالبيت يتعلم فيه الكبير والصغير دروساً في الحب أو الكراهية، وعندما يكون الأب قدوة في البيت فلا خصام في داخل الأسرة ولا شجار خارج البيت وإنما يعيش كل فرد من أفراد الأسرة في جو متسامح، يتسم بالعفو عمن ظلمه، وينبذ الخلاف، ويكره الشقاق.

ب- المجتمع: تتجدد مسؤولية المجتمع عند تربية أبنائه وتوجيهها إلى الخير أو الشر، فهو الوسط الذي ينشأ فيه الأفراد، ومن خلال تعاملهم مع بعضهم بعضاً يؤثرون ويتأثرون سلباً وإيجاباً؛ لذلك فهو يؤثر على جميع الأفراد والجماعات المكونة لهذا المجتمع.

ج- المسجد: فالمسجد مكان لإقامة المحاضرات والندوات والدروس العلمية والمواعظ الإيمانية التي تدعو الناس إلى التحابب وسلامة الصدور، وإصلاح ذات البين وكل ذلك من خلال كلام الله - تعالى -، ومن خلال كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفعله وفعل أصحابه وأتباعه من أهل الفضل والكرم - رضي الله عنهم - جميعاً.

د: دور المؤسسات التربوية في إرساء دعائم إصلاح ذات البين: (3)

- المنهج: فالتعليم عمود النهضة وعمادها وذخر أي أمة وسندها، فالأمة الإسلامية أمة العلم والتعلم؛ إذ هي التي بدأ كتابها السماوي «القرآن الكريم» بكلمة «اقرأ» في أول ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالمنهج يغرس في المتعلم العلم والخلق والسلوك والإخلاص والأمانة.

- المعلم: يُعدُّ الأساس، بل هو الدعامة الأساسية لبناء المجتمع وتقدمه، فشخصية المعلم لها أثر عظيم في عقول التلاميذ ونفوسهم؛ لأنه يؤثر بمظهره وشكله وتعامله وحبه وبغضه وكراهيته وسلوكه الذي يبدو منه، وما أجمل المعلم حين يغرس في قلوب أبنائه روح المحبة والتسامح والعفو والصفح، ولين الجانب، ونكران الذات، ونبذ الخلاف والشقاق والنزاع والحسد والبغض والحقد والانتقام.

هـ- المدرسة: من أخطر المؤسسات التربوية التي يقضي فيها الفرد شطراً كبيراً من عمره، وهي المحيط المناسب لتوعية الطلاب بأهمية إصلاح ذات البين ومعرفة طرائق وأساليب حل الخصومات عبر الحلول الإرضائية التي تمارس في المدرسة عند حدوث أي خصام بين الطلاب، فتحل مشكلتهم عن طريق الصلح، فالمدرسة هي الركيزة الأساس لتنمية القيم والأخلاق الإسلامية، ونشر ثقافة الحب والتسامح والتواضع والعطف على الآخرين والرحمة في الآخرين والتنازل عمن أساء وتجاوز حد الأدب، فالمدرسة تعمل على تعميق القيم والمعايير والتصورات والعقائد وغرسها في الفرد والمجتمع وتحويلها إلى سلوك عملي في الواقع، وتكون بذلك عملية فريدة ومتميزة، ومقصده صياغة العقل والوجدان والنفس وتحديد المواقف الكلية.

و: دور الإعلام: وسائل إصلاح ذات البين كثيرة منها الشفهية والسمعية والبصرية، أو المقروءة وتشمل كلًّا من الاتصال الفردي والخطبة والمحاضرة والندوة والمذياع والشريط المسموع والمسرح والتلفزيون، والكتاب والصحيفة والمجلة والإنترنت وأجهزة الاتصال وغيرها ولو استخدمت هذه الوسائل بحق لعاش الناس في حب وإخاء وتآلف، ولضاق الخصام والشجار على مستوى الأفراد والجماعات والقبائل والدول.

    الإعلام بوسائله المقروءة والمسموعة والبصرية وغيرها له تأثير كبير على النمو المعرفي والانفعالي والاجتماعي للشعوب يزداد تعاظمها وأهميتها في مجتمعنا الحديث خاصة، فما من بيت يخلو من إحدى هذه الوسائل كالمذياع والتلفاز، والصحيفة والشريط، فهذه الوسائل تعمل على التوجيه وحفظ مقومات الأمة وثباتها أمام التيارات المختلفة، وفي تحصين الفرد والجماعة.

إن لهذه الوسائل دوراً كبيراً في تعزيز التسامح ونبذ العنف من خلال استضافة عالم، أو داعية يتحدث عن أهمية إصلاح ذات البين، ويبين خطورة الخصومة ومضارها على الفرد والمجتمع.

الفرع الثالث: أساليب عملية لإصلاح ذات البين:

1- المكاشفة: الموضوعية: هؤلاء الصحابة عندما اختلفوا في أمر الخلافة، كان الأنصار يرون أنهم أحق بها من غيرهم؛ لأن الخلافة تركت دون تبيين من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فليس هناك نص قاطع من الكتاب والسنة ينتهي الناس إليه ويحتكمون به، وهنا لم يبق إلا التحلي بالحكمة والحنكة وآداب الاختلاف والحوار العقلاني الهادئ المؤدي لأنبل المشاعر وأفضلها لدى الطرفين، بالتجاوز واحتواء الأزمة، والخروج منها إلى برّ الأمان، فكانت المكاشفة بين المهاجرين والأنصار، فقد تكلم خطيب الأنصار، ثم أبو بكر الصديق وبما قاله - رضي الله عنه -: أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأشاد بهم وبما قدموا لدينهم ولإخوانهم المهاجرين، وذكر من فضائلهم ومآثرهم ما لم يذكره خطباؤهم، ثم بدأ في إخراج الأمر من الإطار الذي وضعه خطيب الأنصار فيه، فالأمر ليس مقصوراً على المدينة وحدها فالجزيرة اليوم تستظل بظل الإسلام وإن كان المهاجرون القاطنون في المدينة يمكن أن يسلموا لإخوانهم الأنصار بالخلافة ويعرفوا فضلهم، فإن بقية العرب لن تسلم لغير قريش، فبين لهم الأمر بهذا الخطاب الواضح حتى يسلموا الأمر لإخوانهم من قريش.

2- الاسترضاء: قد يكون للطرف الآخر شكوى منطقية، وحق يطالبك به، فما عليك إلا الاعتراف بهذا الحق وإرجاعه ما أمكن، ثم استرضاؤه، لينتهي النزاع ولا يطول بقول فولتير: النزاع الطويل يعني أن كلًّا من الطرفين على خطأ.

وقد استرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وعرض نفسه للقصاص قائلاً: «من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه»- فهذا استرضاء منه وطلب للعفو والمسامحة في الدنيا قبل الآخرة.

3- المصارحة والمواجهة الهادئة: اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصفح والعفو وامتثالاً لقوله - تعالى-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشّورى: 40). فقد واجه من قومه كل أنواع الأذى هو وأصحابه من رمي بالحجارة والسخرية والاستهزاء، وما حادثة الطائف إلا خير دليل على رحمته وتسامحه، فقد جاء ملك الجبال، يريد أن يطبق عليهم الأخشبين فقال - صلى الله عليه وسلم-: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله - عز وجل - لا يشرك به شيئاً».

     دعا لهم بالمغفرة من قلبه الطاهر فقال: « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، بل زيادة على ما ذكر فإنه كان يحاور أعداءه بلين الجانب والهدوء التام في حواراته وخطاباته، فهذا عتبة بن ربيعة الذي كان سيداً من سادات قومه طلب من قومه أن يكلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويعرض عليه أموراً، فأذنوا، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس، وبدأ بالحديث مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «قل يا أبا الوليد، والتفت إليه بهدوء تام، حتى انتهى من كلامه، ثم قال له: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم»، فهذه أخلاقه مع خصومه وأعدائه ومنه نتعلم كيف نواجه الخصم بهدوء تام، وقوة تحكم في المشاعر والأحاسيس وقسمات الوجه وتعبيراته، وعدم الانفعال والغضب، بل علمنا كيف نحاور خصومنا بهدوء، ونستمع إليهم بإنصات حتى إذا انتهوا من كلامهم نبدأ بتوضيح فكرتنا وبيان خطئهم، وصولاً إلى إقناعهم بخطأ فكرتهم أو خطأ سلوكهم، ثم طلبهم بعدم التكرار لمثل هذه الأعمال غير المرغوبة مع إخبار الخصم إذا اقتنع بخطأ ما أقدم عليه.

خاتمة: تتضمن أهم النتائج والتوصيات:

1 - أن الخطاب القرآني يولي اهتماما وعناية قصوى للدعوة إلى المصالحة ويرسم الطريق لتحقيقها ويطلب من المؤمنين به أن يجعلوها العملة التي يتعاملون بها في حياتهم حتى يستقر لهم دينهم، وتستقيم حياتهم، وتعمر بالخير والصلاح.

2- التأكيد على الإسراع بتحقيق المصالحة وإنهاء العنف ووضع حد للدماء التي تسيل في بعض أرجاء العالم الإسلامي، ولقد أصبحت المصالحة في هذا العصر ضرورة دينية ووطنية. ولكن ذلك وفق ضوابط وشروط حددتها الشريعة الإسلامية، ومنها: عدم جواز المصالحة مع من تلوثت أيديهم بالدماء، ومن صدرت ضدهم أحكام قضائية في جرائم القتل والعنف وتخريب الممتلكات العامة والخاصة. وينبغي توعية جميع فعاليات المجتمع المدني والقوى السياسية ومؤسسات الدول بالإسراع في تشريع القوانين والمواثيق لتحقيق المصالحة الوطنية ولم الشمل لبناء الدول الإسلامية حتى يتحقق الأمن والأمان والاستقرار للوطن والمواطنين، ولنا في تجرية الجزائر ممثلة في ميثاق السلم والمصالحة الوطنية المستمد من خطاب المصالحة في القرآن الكريم، أحسن مثال حقق نتائج جد إيجابية في تحقيق السلم والاستقرار الاجتماعي.

3- ضرورة إدراج خطاب المصالحة في القرآن الكريم في المنظومة التربوية وتدريسه في جميع أطوارها، فضلا من غرس المفاهيم الإسلامية المتعلقة بالتسامح وثقافة السلم والوسطية والاعتدال وحقوق الإنسان والحريات العامة لدى عقول الشاب المسلم.

المراجع

 (1) المرجع نفسه، ص5، انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية، بيروت  لبنان.

(2) عدالة المصالحة الوطنية ضرورة دينية وإنسانية، علي الصلابي، ص4، بحث منشور.

(3) المرجع نفسه، ص5

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك