خصائص المنهج السلفي (4) اجتناب الجدل المذموم في الدين
من أهم خصائص منهج السلف اجتنابهم الجدال والخصومات والمراء في الدين ونهيهم عن ذلك وإنكارهم له لم يسكت علماء السلف عن الخصومة والجدل في الدين جهلاً ولا عجزاً ولكنهم سكتوا عن علم وخشية لله عزوجل نهى السلف عن المناظرة لمن لا يقوم بواجبها أو مع من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة أو فيها مفسدة راجحة السلف لم يذموا الجدل مطلقًا فهم يجيزون الجدل والمناظرة متى وجدت أسبابها ودواعيها كرد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه وعقيدته الفاسدة وكالخشية من فتنة العامة وضلالها إن المنهج السلفي يعني الطريق الواضحة البينة لما كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمنهج السلفي ليس حقبة تاريخية مضت وانقضت، بل هو منهج له أصوله وقواعده وخصائصه، وليس له وقت ينتهي إليه ولا يتقيد بمكان ينحصر فيه، وإن معرفة خصائص المنهج السلفي تعين على تحديد معالمه وتمييز هويته في هذا الزمن الذي كثرت فيه الدعاوى بالانتساب لهذا المنهج المبارك، ومن الرسائل الجامعية المميزة التي تناولت هذا الموضوع رسالة د مفرح بن سليمان القوسي عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض التي كانت بعنوان المنهج السلفي تعريفه، تاريخه، مجالاته، قواعده، خصائصه الخاصية الرابعة اجتناب الجدل المذموم في الدين من أهم خصائص منهج السلف رحمهم الله اجتنابهم الجدال والخصومات والمراء في الدين، ونهيهم عن ذلك وإنكارهم له، يقول ابن رجب الحنبلي ومما أنكره السلف الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام وإنما أحدث ذلك بعدهم، وقد روي عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال ليس الجدال في الدين، وكان يقول الكلام في الدين أكره، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في دين الله وفي الله عز وجل فالسكوت أحب إليَّ؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل، وأخرج الخطيب البغدادي وابن بطة العكبري عن إسحاق بن عيسى أنه قال سمعت مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين ويقول كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أرادنا أن نرد ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بالسنة والحديث وروي عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال ما رأيت أحداً ارتدى شيئاً من الكلام فأفلح؛ ولذا كان يحذر من ذلك ويقول لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك، خير من أن يلقاه بشيء من الكلام، وروي عن الإمام أحمد رحمه اللهأنه كان يقول عليكم بالسنة والحديث وما ينفعكم الله به، وإياكم والخوض والجدال والمراء فإنه لا يفلح من أحب الكلام، ولا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، وعليكم بالسنن والآثار والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء، ويقول لا يفلح صاحب كلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل وروي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله أنه كان يقول إذا سمعت المراء فأقصر، كما روي عن الإمام الأوزاعي رحمه الله أنه كان يقول عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك بالقول إيجاز العبارة واجتناب الإطالة ويتسم منهج السلف بإيجاز العبارة واجتناب الجدل والإطالة؛ ففي كلامهم التنبيه على مأخذ العقائد ومدارك الأحكام بكلام مختصر وجيز يُفهم به المقصود من غير إسهاب ولا تعقيد، وفي كلامهم أيضاً رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة، وهذا من أبرز ما يمتاز به منهجهم من سائر المناهج الأخرى، ولاسيما منهج المتكلمين الذين اتخذوا الجدل والتعقيد والإطالة في الاستدلال مطية في إثبات العقائد سكتوا عن علم وخشية ولم يسكت علماء السلف عن الخصومة والجدل في الدين جهلاً ولا عجزاً كما يعتقد كثير ممن فتنوا بذلك من المتأخرين ولكنهم سكتوا عن علم وخشية لله عزوجل، روي عن محمد بن سيرين رحمه الله أنه قال لرجل ماراه في شيء إني قد أعلم ما تريد، وأعلم بالمماراة منك، ولكني لا أماريك، ويقول ابن رجب الحنبلي مجليا هذه الخاصية ورادا على من زعم أن كثرة الجدال والمراء دليل على كثرة العلم وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا يعني كثرة الكلام والجدل فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض، فكلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم، وكذلك تابعو التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين، والتابعون أعلم منهم ليس العلم بكثرة الرواية فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يُقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختصر لـه الكلام اختصاراً، ولهذا ورد النهي عن كثرة الكلام والتوسع في القيل والقال؛ فيجب أن يُعتقد أنه ليس كل من كثر بسطه للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك، وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، وهذا انتقاص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم، ونسبة لهم إلى الجهل وقصور العلم ويقول ابن القيم فليس العلم كثرة النقل والبحث والكلام، ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها، وحقها من باطلها، وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال المحاذير المترتبة على الجدال كما أن علماء السلف سكتوا عن الجدل في الدين اجتناباً للمحاذير العديدة المترتبة عليه التي منها أن الجدل في الدين يؤدي إلى التلون فيه؛ بحيث لا يثبت المجادل والمخاصم في دينه على وجه واحد يقول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل أن الخصومات في الدين تقود صاحبها إلى تكذيب القرآن وضرب بعضه ببعض والخوض في آيات الله بالباطل أنها تؤدي إلى الوقوع في الأهواء والآراء الضالة يقول أبو قلابة رحمه الله لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا أمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يُلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم أنها تورث العداوة والبغضاء في القلوب وتحبط الأعمال يقول الإمام مالك رحمه الله المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغن أنه من خلال تلك الخصومات يستزل الشيطان العالم، فلا تكون ساعة الخصومة بالنسبة له إلا ساعة جهل تظهر فيها أخطاؤه يقول مسلم بن يسار رحمه الله إياكم والمراء فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته سبب كراهية السلف للجدال يقول ابن أبي العز الحنفي مبيناً اجتناب السلف للجدل والمراء وكراهيتهم له والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً على معان صحيحة، كالاصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة وما فيه من علوم صحيحة، فقد وَعَرُوا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها، فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيُرتقى ولا سمين فيُنتَقَى وأحسن ما عندهم فهو في القرآن أصح تقريراً وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلا التكلف والتعقيد السلف لم يذموا الجدل مطلقًا وينبغي ألا يفهم مما تقدم أن السلف ذموا مطلق الجدل وكرهوا جنس المناظرة، فهم رحمهم الله يجيزون الجدل والمناظرة، بل ويوجبونها أحياناً، متى وجدت أسبابها ودواعيها، كالطمع في رد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه وعقيدته الفاسدة، وكالخشية من فتنة العامة وضلالها وتأثرها بأقوال أهل الباطل ومذهبهم السوء فيجب والحالة هذه إذا كان المناظر عالماً بالحق مناظرة أهل الباطل ومجادلتهم بالتي هي أحسن بياناً للحق وذبا عنه، وإزهاقاً للباطل ودحضاً له، فهي من باب النصيحة المطلوبة شرعاً لله ولرسوله، يقول ابن تيمية والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل والجدل بغير علم والجدل في الحق بعدما تبين فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام وأمر بها في مثل قوله تعالى قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكثَرْتَ جِدَالنَا، وقوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبراهيم على قومه، وقوله تعالى ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجُ إِبْرَاهِيمَ في ربه، وقوله تعالى وَجَادِلْهُم بالتي هي أَحْسَنُ، وأمثال ذلك فقد يكون واجباً أو مستحباً، وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع النهي عن المناظرة لمن لا يقوم بواجبها ويقول موجهاً ما ورد عن السلف من الآثار في النهي عن المناظرة والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها، أو مع من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحـ أحوال، وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة ومستحبة أخرى، وفي الجملة جنس المناظرة والمجادلة فيها محمود و مذموم ومفسدة ومصلحة وحق وباطل، ويقول كذلك والسلف لم يذموا جنس الكلام، فإن كل آدمي يتكلم، ولازموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به ورسوله، والاستدلال بما بينه الله ورسوله، بل ولا ذموا كلاماً هو حق، بل ذموا الكلام بالباطل وهو المخالف للكتاب والسنة والعقل
لاتوجد تعليقات