حوكمة المؤسسات الوقفية وحفظ أصولها (2)
حوكمة المؤسسة الوقفية مدارها تطبيق نظام رقابي شامل لأساليب أداء العمل في المؤسسة الوقفية ووسائله ؛ فهو منهجية إدارية وعلمية ذات معايير متفق عليها داخليًّا، ومراقبة خارجيًّا، يتم من خلالها الحكم على الأداء، وتقويمه في المجالات كلها، وقد تكلمنا في الحلقة الأولى عن مفهوم الحوكمة وأهمية تطبيقها وأهدافها وشروط تعزيزها لدى المؤسسات الوقفية، واليوم نكمل الحديث عن هذا الموضوع.
أدوات الحوكمة لحفظ الأصول الوقفية وحمايتها
تعدُّ جهود الحوكمة وممارستها المستمرة بفاعلية من الركائز الأساسية لتمكين أداء المؤسسة الوقفية، وتطوير مخرجاتها، وحفظ أصولها، وتعزيز ثقة الشركاء من واقفين ومستفيدين، وضمان حفظ أصولها واستمرار نمائها؛ وحيث إن الحوكمة بمعناها الشمولي تشير إلى مجموعة من الخصائص، هي: الشفافية، والاستقلالية، والمساءلة، والمسؤولية، والعدالة، ولا خلاف على أن الإفصاح والشفافية لكل ما يتعلق في المؤسسة الوقفية مطلب شرعي؛ حيث الصدق والإخلاص في العمل أساس العمل السليم المبني على النزاهة.
ولكي يتحقق ما ترمي إليه الحوكمة لابدَّ من تطبيق منظومتها على المؤسسات الوقفية، وعلى وجه الخصوص تلك التي تضمن الحفاظ على الأصول الوقفية وحمايتها وحسن رعايتها، وعليه لا بدَّ من تحديد تلك الأدوات التي تتكامل فيما بينهما لتحقق لنا هذه الغاية المنشودة، ومن أهم تلك الأدوات ما يأتي:
1- القوانين والنظم والسياسات والإجراءات المتبعة التي تضمن حماية أصول الوقف وممتلكاته، وحقوق الموقوف عليهم وأصحاب المصلحة.
2- المنهجية العلمية المتبعة في المؤسسة الوقفية والمستمدة من التشريع الإسلامي، والمقنَّنة بطريقة مواد أُخذت من القواعد والضوابط الفقهية في الاستثمارات الوقفية.
3- الهيكل التنظيمي المتكامل والمتوازن والمتماسك الذي يتناسب مع حجم الوقف وأصوله، على أن يكون هذا الهيكل انعكاسًا للفكر الإداري والتنظيمي الحديث الذي يركز على الإدارة المؤسسية للوقف.
4- الدائرة المالية والمحاسبية وانتهاج سياسات تدقيق ومتابعة لأنشطة المؤسسة المختلفة؛ وذلك من خلال لجان مختصة وآليات عمل مصاحبة ذات فاعلية بالوصول إلى المعلومة وتقويمها وأخذ القرارات التصحيحية بشأنها، هذا، فضلا عن نظام فعَّال للتقارير والمساءلة والرقابة الداخلية والتدقيق الخارجي.
5- رقابة قضائية فعَّالة تضمن الإشراف الفاعل على إجراءات العمل في المؤسسات الوقفية.
تحديات تواجه الحوكمة
وكذلك هنالك تحديات تواجه الحوكمة على الوقف، ألخِّصها بالآتي:
1- صغر حجم كثير من المؤسسات الوقفية، وقلَّة مواردها؛ وبالتالي فإن تطوير أنماط إدارتها وإخضاعها لمتطلبات الحوكمة يزيد من أعبائها المالية؛ مما يؤثر على تحقيقها لأهداف الواقف.
2- يخضع الوقف لقواعد وأحكام شرعية وليدة اجتهادات فقهية تأثَّرت بظروف الزمان والمكان، والأنماط القانونية والإدارية السائدة، وحجم الوقف ومقاصده في زمانها.
3- عدم وجود رقابة داخلية وتداخل مهامِّ العمل؛ من تشغيل الوقف، وتولي توزيع ريعه لأصحاب الحاجات.
4- تدني مستوى قدرات العاملين في بعض المؤسسات الوقفية، وافتقاد معايير العمل بالمؤسسات الوقفية.
5- وجود تباين في مستوى الإفصاح، وتدني مستوى الشفافية، وعدم وضوح المعلومات السنوية غير المالية.
القواعد الفقهية ودَوْرها في حوكمة المؤسسات الوقفية
قدَّم الوقف ونظامه الشرعي والمؤسسي عبر مؤسساته ومبادراته في العهود الإسلامية كثيرًا من مناهج العمل الآمن والإدارة الرشيدة المتميزة في كثير من المجتمعات، وللوقف باعٌ طويلٌ في جميع تلك العمليات المكونة لمفهوم الحوكمة، وذلك من خلال مراحل تطوره التاريخي؛ ولذلك فإن عملية تطبيق مفاهيم الحوكمة على العمل الوقفي المؤسسي تبدو سهلة وميسرة، وهي في الحقيقة كذلك.
فأحكام الوقف وشروطه ومكوناته وقواعده التي أتت بها نصوص السنة النبوية، وما تبعها من اجتهاد، تجعله منظمًا بطريقة كبيرة من جهة، وغير منغلق أمام التطوير والنماء من جهة ثانية، ومتاحًا لعمليات رقابية إضافية.
ومن هنا نرى أن العلماء والفقهاء اجتهدوا خير اجتهاد في بحث مسائله، ووضع أحكامه، وحلِّ إشكالاته، وسنِّ كل ما يضمن للوقف مقاصده ونماءه؛ وذلك نظرًا لتنامي الأوقاف في عصورهم وتنوع احتياجات مجتمعاتهم.
وعليه فقد صنفوا التصانيف التي بسطت أحكام الوقف، ودوَّنوها إما في أمهات الكتب، أو بإفراد باب لها ولبيان أحكامه فيها، وجُعلت له القواعد والضوابط الفقهية منذ القرن الثاني، وذلك ليسهل على من جنَّد نفسه لخدمة العمل الوقفي والخيري الأخذ بها، والالتزام بأحكامها، وجعلها ركنًا من أركان العمل في المؤسسات الوقفية، التي يُبنى عليها، ويجتهد فيما طرأ عليها من حاجات وأولويات.
خصائص القواعد الفقهية
- أولاً: أنها مستقاة من الأدلة الشرعية؛ سواء كانت من كتاب اللّه -تعالى- (القرآن الكريم)، أم من السنة النبوية الشريفة، أم من الإجماع، والقياس، وغيرها من مصادر الشريعة الغراء.
- ثانيًا: أنها منسجمة مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
- ثالثًا: أنها مختصَّة بالأحكام العملية.
فتلك القواعد والضوابط هي الأساس الذي بُنيت عليه منظومة المؤسسة الوقفية، في جميع مجالاتها التي تضبط العمل الإداري وتضمن سيره المنضبط والموجه لتحقيق الأهداف، والمقاصد التي من أجلها شرع الوقف وأُوجدت مشاريعه ومؤسساته، وفي مقدمتها مجال إدارة المؤسسة الوقفية وحماية أصولها وضمان استمرارها وفق الشرع الحكيم، والمقاصد التي من أجلها وضعت الحوكمة لضبط عمل المؤسسات وضمان شفافيتها وتقاريرها كلها لم تخرج عمَّا جاءت به القواعد والضوابط بالعموم، إلاَّ أن تفعيل الأنماط الحديثة للرقابة والتقويم والمتابعة، والتقويم والتحسين المستمر.. من شأنه أن يضيف وينهض بالوقف إلى مراتب أعلى؛ من حيث الأداء والفاعلية والأثر المجتمعي الذي يستهدف كلاًّ من: الواقف، والموقوف عليه، والمتولين أمر نظارته، والمجتمع الذي أنشئ فيه.
وأذكر -على سبيل المثال لا الحصر- عشرًا من القواعد والضوابط الفقهية المتعلقة بالأعمال الوقفية؛ وهي:
1- مَبْنَى الوَقْفِ على مُراعَاةِ المَصْلَحَةِ.
2- وَقْفُ ما لا يُنتَفَعُ بهِ لا يصحُّ.
3- يُلغى كلُّ شرطٍ مُخلٍّ وليس فيه مصلحة أو فائدة للوقف.
4- يُفتى بكُلِّ ما هو أنفعُ للوقف.
5- ناظر الوقف عليه أن يتصرَّف له بالأصلح فالأصلح.
6- يقدَّم في ولاية الوقف من عُرفت قوته وأمانته.
7- الخطأ لا يُستدام ولكن يُرجَع عنه.
8- لكل عمل رجال.
9- يجب عزل كل خائن من النُّظَّار والمُتَولِّين.
10- المفرِّط ضامن.
فالأعمال والمشاريع الوقفية في العهود الإسلامية منذ نشأتها الأولى، اتخذت نظم العمل المؤسسي، ومصطلحات الوقف ووظائفه خير شاهد على ذلك؛ لذا أرى جعل القواعد والضوابط الفقهية ركنًا من أركان حوكمة العمل في المؤسسات الوقفية؛ فلا مناص من الاعتناء بجانب التأصيل الشرعي في حوكمة مؤسساتنا الوقفية، والعمل وفق منظومة المعايير العلمية والإدارية المنضبطة بضوابط الشرع.
لاتوجد تعليقات