رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: علي صالح طمبل 4 نوفمبر، 2013 0 تعليق

حماني ظلها.. وفات خلاها كلها!!

 

لجأ أحد المتشردين إلى ظل إحدى العمارات ليستريح قليلاً بعد يوم متعب قضاه في البحث عما يسد به رمقه.

ولكنه ما إن أغمض عينيه حتى انتبه على صوت خشن يقول له:

- قوم يا زول من هنا.. المحل ده ما لوكاندة.

رفع بصره ببطء إلى مصدر الصوت، فإذا به برجل تبدو على هيئته علائم الثراء والبذخ، فما كان منه إلا أن قام متثاقلاً دون أن ينبس بكلمة، ليغادر المكان بقلب منكسر، بينما لاحقته نظرات صاحب العمارة التي كانت تتطاير شرراً!

بعد أيام عدة مرَّ ذلك المتشرد بالشارع نفسه، فوقعت عيناه على سُرادق عزاء منصوب أمام تلك العمارة التي طرده صاحبها من ظلها، ودفعه الفضول لأن يسأل أحد المارة:

-لمن هذا العزاء؟

-لقد توفي صاحب هذه العمارة.

فقال في تعجب:

-سبحان الله! حماني ظلها، وفات خلاها كلها!)

كان أحد سكان تلك المنطقة الريفية يملك بقالة دارت بذكرها الأحاديث من فرط اتساعها، وحداثة تصميمها المغاير لما اعتاد عليه أهل المنطقة، علاوة على جمال منظرها واكتظاظها بأصناف البضائع والسلع.

ومن حين لآخر، كان أحد سكان الحي يوقف سيارته في ظل تلك البقالة، وكان صاحب البقالة يضيق ذرعاً بذلك الرجل وسيارته، فقرر ذات يوم أن يضع حداً له، فما كان منه إلا أن أوصى العامل في البقالة:

-كلِّم الزول ده تاني ما يوقف عربيته هنا!

     وبالفعل نفذ العامل تعليمات صاحب البقالة، وطلب من صاحب السيارة ألا يوقف سيارته في ظل البقالة، فانصاع ذلك الرجل ببساطة ورحابة صدر، وامتنع عن إيقاف سيارته تحت الظل؛ بناء على رغبة صاحبها!

     ومرت سنوات، فإذا بصاحب البقالة يصاب بمرض استدعى تدخلاً جراحياً، واستغرق العلاج مدة طويلة، ظل فيها طريح الفراش، ينتقل من طبيب إلى طبيب، ومن مستشفى إلى آخر، حتى أنفق جل أمواله في العلاج، حتى اضطر آخر الأمر أن يعرض بقالته التي كانت مساراً لحديث الناس للبيع!

ولاحظ أحد السكان غياب صاحب تلك البقالة عن الأنظار فترة من الزمن، فسأل عنه، فقيل له:

-لقد توفي بعد أن طال به المرض، وبعد أن اضطر أن يبيع بقالته.

-رحمه الله.. ولكن من الذي اشتراها؟!

-اشتراها صاحب السيارة الذي كان يوقفها أمام البقالة قبل أن يمنعه صاحبها من ظلها!

     وفي إحدى القرى تأخرت الباخرة بالرغم من امتلائها بالركاب، فتذمر الناس وأبدوا ضيقهم، وسألوا عن سبب تأخرها، فأُشير إلى رجل يركب سيارة (بوكس)، وأُخبروا بأنه هو الذي طلب إيقاف الباخرة؛ لأنه ينتظر بعض أقاربه ليلحقوا به.

     فاستشاط الناس غضباً، وأفرغوا جام سخطهم على ذلك الرجل، فمِنْ قائل: «ماذا تظن نفسك؟!» ومن قائل: «لعله مسؤول استغل منصبه!» ومن قائل: «وما ذنبنا حتى ننتظر أقاربه ونترك مشاغلنا؟!»، والعجيب أن صاحب السيارة كان يستمع إلى كل ذلك وغيره من عبارات السخط والنقد والتجريح دون أن يتفوه بكلمة، حتى جاء أقاربه، فركبوا الباخرة التي تحركت بهم صوب الضفة الأخرى من النهر.

وحين رست الباخرة على الضفة الأخرى، هبط منها الركاب، لتبحث عيونهم عن سيارة تقلهم إلى حيث يريدون، ولكن طال وقوفهم وانتظارهم دون طائل.

     وفي هذه اللحظات كان صاحب العربة البوكس قد أخرج سيارته من الباخرة، فأخذوا ينظرون إليه في صمت، ونظراتهم تستجديه أن يحملهم معه، دون أن يتجرؤوا أن يطلبوا منه ذلك بعد ما أسمعوه من عبارات السخط والإساءة.

وكانت المفاجأة أن أوقف ذلك الرجل سيارته أمامهم وأشار إليهم بالركوب!

     حينها التمعت الدموع في عيون بعضهم، وألجمت المفاجأة بعضهم الآخر، بينما أخذ آخرون يزجون إليه عبارات الأسف والندم على ما بدر منهم من تجريح وقدح، فابتسم الرجل، وقبل اعتذراهم، ثم نقلهم إلى حيث أرادوا!

     وفي إحدى المدن، طرق باب إحدى الأسر طارق، لتفتح شابة في مقتبل الشباب، فإذا بصبي تعلو وجهه وهيئته أمارات الفقر والعوز، فرق له قلبها، وسألته عن سبب طرقه للباب، فأخبرها بأنه يتضور جوعاً، ولم يذق طعاماً منذ مدة، فغابت الشابة في الداخل، ثم جاءت بكوب لبن، فشرب الصبي، ثم شكرها بنظرات ملؤها الامتنان، وانصرف.

     بعد سنوات ألمَّ بتلك الفتاة مرض خطير استدعى إجراء عملية جراحية، لكنها كانت عملية باهظة الثمن، ولا يمكن إجراؤها إلا خارج البلاد. وبعد عنت ومشقة استطاع أهلها أن يجمعوا لها ثمن التذاكر، وجزءاً من رسوم العلاج، ولما كان المرض يحتاج لتدخل جراحي عاجل قرر أهلها أن تسافر وتجري العملية، بالرغم من عجزهم عن سداد كافة النفقات العلاجية.

وبالفعل سافرت الشابة، وأُدخلت العملية، فأجريت لها بنجاح.

     وحين حان وقت دفع الفاتورة كانت الشابة في غاية القلق والخوف؛ لأنها تعلم أن ما معها من مال لا يفي بتغطية التكاليف العالية للعلاج والإقامة في المستشفى.

     وحين أُحضرت الفاتورة للطبيب الذي أجرى العملية كتب عليها (تم دفع الرسوم بكوب من اللبن)، لتكتشف الشابة أن ذلك الطبيب هو الصبي نفسه الذي أعطته كوب اللبن منذ سنوات عدة!

     هذه القصص الواقعية اختلفت نهاياتها بين الإشراق والإخفاق، ولكن جمع بينها عمل المعروف، فكانت عاقبة من صنع المعروف تفريج الهموم، وتنفيس الكروب، ودعاء الناس له بالبركة والتوفيق، بينما كانت عاقبة من امتنع عن فعل المعروف وأساء معاملة الآخرين الندم والحسرة ودعاء الناس عليه؛ فنجح في الامتحان من سخر نِعَمَ الله في طاعته، وكان مفتاحاً للخير يبتغي بذلك مرضاة الله تعالى، وفشل في الامتحان من جحد نِعَم الله، وكان مغلاقاً للخير، وغرته الحياة الفانية.

     وهذا مصداق ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم : «صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا، هم أهل المعروف في الآخرة». (رواه الحاكم عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع)، ومصداق قوله صلى الله عليه وسلم : «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» رواه مسلم.

     فعمل المعروف يقي صاحبه الشرور والمهالك، ويجعل الله في حاجته، والامتناع عن عمل المعروف بالمقابل قد يودي بصاحبه إلى التهلكة، ويفقده تأييد الله تعالى وعونه وتوفيقه، و«من لا يرحم لا يرحم» متفق عليه.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك