رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني 4 فبراير، 2014 0 تعليق

حكم هجر أهل البدع وترك مجالستهم


الهجر نوعان: هجر ترك، وهجر زجرفالأول: ترك المعصية وإنكارها، وكراهيتها وكراهية أهلها بقدر معصيتهم وإصرارهم والثاني هجر تأديب لمن يظهر المنكرات

التعامل مع أهل البدع والفجور له ضوابط تراعي تحقيق مقاصد الشريعة، فكل ما كان فيه تقليل للشر وتحصيل للخير

 

تضافرت الأدلة والآثار على هجر أهل الفجور والضلال، كما في قوله تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}(المزمل: 10)، وقوله سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ}(النساء: 140)، وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(الأنعام: 68)، وجاءت الآثار الكثيرة في النهي عن مجالسة أهل البدع والفجور، وذلك لما سبق من أسباب؛ ففهم بعض من لم يفقه طريقة السلف أن هذا الحكم عام من كل أحد مع كل أحد، وفي كل زمان ومكان!! فحصل هجر مذموم، آل إلى الفوضى والفتن، بل حصل هجر من لم يهجر المهجور الأول، وهجر من لم يهجر المهجور الثاني، وهكذا حتى طالت سلسلة الهجر، وفي كل حلقة من هذه السلسة تذكر أسباب جديدة فوق السبب الأساس وهو: عدم هجر فلان!!

     وهكذا كلما نزل الإسناد أضيفت أسباب جديدة حتى يطغى ذلك على السبب الأساس، فلا يذكر بعد ذلك، وصار أمرهم كمن أمسك بتيار كهربائي قوي فصعقه، وكل من لمسه صعق، وهكذا!! وهذا كله من عمل الشيطان، وهذا حال من زين له الشيطان عمله فرآه حسنا، وحال من ضل في هذا الموضع وهو يحسب أنه يحسن صنعا، وإلا فالهجر من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو بذلك جهاد في سبيل الله، وعبادة يجب أن يتوافر فيها شرطا الإخلاص والمتابعة، ويضاف إلى ذلك اعتبار الحال والمآل، والنظر في خير الخيرين فيتبع، وفي شر الشرين فيجتنب، أما الغفلة والتغافل عن هذه القيود فيجعل الهجر عبادة مردودة وعملا غير مقبول لعدم استيفاء شروطه.

والهجر نوعان: هجر ترك، وهجر زجر:

- فالأول: ترك المعصية وإنكارها، وكراهيتها وكراهية أهلها بقدر معصيتهم وإصرارهم.

- والثاني: هجر تأديب لمن يظهر المنكرات حتى يتوب منها، كما هجر النبي  صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم من تركهم الجهاد المتعين عليهم بغير عذر، والتعزير يكون لمن أظهر المنكرات والفواحش، والدعاة إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع السلف، وهذا بخلاف أهل المنكرات الباطنة، والذين لا يدعون إلى بدعهم، فإن التعامل معهم يختلف.

ومن تأمل طريقة السلف وجدهم يهجرون أحيانا ويتركون أحيانا، وهذا راجع إلى مراعاتهم أمورا، منها:

1 - إذا كان الهاجر قويا وهجره سيؤثر على المبتدع فيتوب أو على غيره فيحذر منه؛ فهذا واجب، وإذا كان الهاجر ضعيفا وهجره للمبتدع هجر تأديب لا يؤثر فيه، بل يزيده شرا؛ فلا يجوز في حقه الهجر، وتكون المداراة والتأليف أولى من الهجر في حقه.

2 - إذا كان أهل السنة أقوياء في بلدة ما هجروا أهل البدع ليخمدوا نارهم ويضعفوا شوكتهم، وإذا كان الحال غير ذلك تركوا الهجر، وتألفوا أهل البدع أو داروهم حتى لا يزيد شرهم.

3 - إذا كان المبتدع داعيا إلى بدعته يهجر ما لم يكن وراء ذلك مفسدة أعظم، وإذا لم يكن داعية فلا يهجر، إنما ينصح ويعامل على قدر ما عنده.

وهذه مقتطفات من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمة الله عليه - توضح أن طريقة السلف قائمة على هذا التفصيل، فقد قال - رحمة الله عليه - كما في (مجموع الفتاوى: 205/28):

     «ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات، فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شرا من المنافقين الذين كان النبي  صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثير منهم... فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها، بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة.

     وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضى هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته؛ لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي  صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم، (ولما كان أولئك سادة) مطاعين في عشائرهم؛ فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء - يعني الثلاثة - كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.

     وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه.

     وإذا عرف هذا؛ فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله  صلى الله عليه وسلم ، فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صوابا، فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجرا غير مأمور به؛ كان خارجا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه، ظانة أنها تفعله طاعة لله، وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله...» اهـ وانظر «مجموع الفتاوى» (24/175) وكذا»(16/503).

     وقال - رحمه الله كما في «المجموع» (28/216 - 217) -: «وأما تارك الصلاة ونحوه من المظهرين لبدعة أو فجور؛ فحكم المسلم يتنوع كما تنوع الحكم في حق رسول الله  صلى الله عليه وسلم في مكة وفي المدينة، فليس حكم القادر على تعزيرهم بالهجرة حكم العاجز، ولا هجرة من لا يحتاج إلى مجالستهم كهجرة المحتاج.

     والأصل أن هجرة الكافر نوعان: هجرة ترك، وهجرة تعزير، أما الأولى فقد دل عليها قول تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (المزمل:10) وقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} (النساء:140) ومن هذا الباب هجرة المسلم لدار الحرب.

فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات، ويهجر قرناء السوء الذين تضره صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة.

     وأما هجر التعزير: فمثل هجر النبي  صلى الله عليه وسلم وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا، وهجر عمر والمسلمين لصبيغ، فهذا من نوع العقوبات، فإذا كان يحصل بهذا الهجر حصول معروف أو اندفاع منكر؛ فهي مشروعة، وإن كان يحصل بها من الفساد ما يزيد على فساد الذنب فليست مشروعة، والله أعلم» اهـ.

وقال - رحمه الله كما في «المجموع» (15 - 325): «وذلك أن مقارنة الفجار إنما يفعلها المؤمن في موضعين:

- أحداهما: أن يكون مكرها عليها، والثاني: أن يكون ذلك في مصلحة دينية راجحة على مفسدة المقارنة، أو أن يكون في تركها مفسدة راجحة في دينه، فيدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، (ويحصل) المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة...» اهـ.

وقال في (28 /217): «وأما إذا أظهر الرجل المنكرات؛ وجب الإنكار عليه علانية، ولم يبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكنا من ذلك من غير مفسدة راجحة» اهـ.

     وقال - رحمه الله كما في «المجموع» (28/ 212 - 213) -: «فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم، وذنب، وإثم، وفساد، وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد، والنهي عن المنكر، وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا، وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله، فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه، وتحضها على فعل ضد ظلمه من الإيمان والسنة ونحو ذلك، فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد - بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأمورا بها، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك، أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية، فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم؛ سقط الأمر بفعل هذه الحسنة، وكان مداراتهم فيها دفع الضر عن المؤمن الضعيف، ولعل أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي» اهـ.

     بل ذهب شيخ الإسلام إلى التعاون مع المبتدع إذا تعذرت إقامة الواجبات إلا به، فقال بعد كلامه السابق مباشرة: «فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل» اهـ.

     فتأمل قوله: «من العلم والجهاد وغير ذلك» مما يدل على فساد قول من أطلق ألا ينظر في كتب أهل البدع ولو ترجحت المصلحة، وألا يؤخذ عنهم علم ولو أمنت المفسدة، وإذا استدل على هؤلاء بجواز - بل ربما وجوب - جهاد الكفار مع المبتدعة، والصلاة خلف الفجار - عند الحاجة - قالوا: هذا خاص بالجهاد والصلاة، وشيخ الإسلام يقول: «من العلم والجهاد وغير ذلك» ولم يحصر ذلك فيما قالوا، فلا أدري بأي دليل غير التحكم المحض فصلوا هذا التفصيل؟!

     بل قطع شيخ الإسلام - رحمه الله - دابر شبهة من أطلق القول بهجر كل مبتدع من كل سني، وبين أن هذا ليس مذهب الأئمة، فقال بعد كلامه السابق مباشرة: «وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسؤول حاله، أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنما يثبت حكمها في نظيرها، فإن أقواما جعلوا ذلك عاما، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات، وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره، أو وقفوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا، فهم بين فعل منكر أو ترك النهي عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به، فهذا هذا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله سبحانه أعلم» اهـ.

     وقد عد بعضهم المبالغة في الهجر أنها من تمام الورع، وأن ذلك دليل على حياة القلب وزيادة الإيمان، وليس كذلك إلا إذا روعيت الضوابط السابقة، وقد قال شيخ الإسلام - كما في «المجموع» (10 /512) -: «وتمام الورع أن (يعلم) الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا، ويدع الجمعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية ويرى ترك قبول (و) سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع...» اهـ.

فظهر بهذا التفصيل والبيان صحة ما قررته، والحمد لله رب العالمين.

جـ: فرع في الصلاة خلف أهل البدع:

فيه تفصيل أيضا انظره في «مجموع الفتاوى» (23/342-).

     خـاتمة: يتضح مما سبق أن التعامل مع أهل البدع والفجور له ضوابط تراعي تحقيق مقاصد الشريعة، فكل ما كان فيه تقليل للشر وتحصيل للخير - وإن قل في كليهما - فثم شرع الله، فإطلاق القول بمجالستهم أو الأخذ عنهم غير صحيح، كما أن إطلاق القول بهجرهم دائما من كل أحد، وترك ما عندهم من علم نافع مثلا غير صحيح، وأن التعاون معهم ضد الكفار، أو لتحقيق المصالح الشرعية في الحال والمآل دون مفسدة راجحة موافق لأصول الأئمة، ومحقق لمقاصد الشريعة، كل هذا فيمن أمن في حقه الفتنة، وأما من خشي عليه الافتتان بهم؛ فيفر من مجالستهم والاغتراف من وعائهم، فدع عنك أقوال الغلاة أو الجفاة، والحق وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وواد بين جبلين، والله تعالى أعلم وأحكم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك