رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد 1 فبراير، 2022 0 تعليق

حقيقة السعادة وأسبابها

 

 

عند الحديث عن ماهية السعادة نجد أن هناك خلافًا حصل في وجات النظر حول أسبابها بين الفلاسفة وعلماء الدين والنفس والاجتماع؛ إذ هناك اختلاف بين كل فليسوف وآخر، وبين كل عالم وآخر، حول ماهيتها وأسبابها، فالسعادة عند أرسطو ليست هي عند الفارابي، والسعادة عند الغزالي ليست هي عند ابن تيمية، والسعادة عند الأدباء تختلف عن السعادة عند هؤلاء وهؤلاء، وإن منشأ الاختلاف حول مفهومها وأسبابها إنما يرجع إلى اختلاف غرض كل واحد من الحياة، ونظرته لسبب وجوده، وعلاقته بالله -تعالى.

السعادة في التقوى

     هكذا يراها، الشاعر الحُطيئة العبسي، فالسعادة في رأيه ليست في الدنيا وأموالها ومتاعها الزائل، وإنما هي في الآخرة ونعيمها ومتاعها الخالد الذى لا ينال إلا بالتقوى، فهذه هي السعادة الحقيقية، ولعمري ما أصدقه! لقد عانى الحُطيئة في حياته قبل إسلامه، فقد كان شديد دمامة الوجه، ظاهر القِصَرِ، مجهول النسب، يهجو أباه وأمه ونفسه، من شدة سخطه على ما هو فيه، وكان في حياته مشرَّدَ الفكر، غير مستقر العقيدة، أسلم ثم ارتد ثم أسلم، سجنه عمر - رضي الله عنه - لكثرة هجائه؛ فلعل الله قد قذف في قلبه بعد ذلك ما كان سبباً في صدور تلك الحكمة منه، يقول الأستاذ شوقي ضيف -رحمه الله- في تاريخ الأدب العربي: «ولعل في ذلك ما يدل على أنه حسن إسلامه، ومعنى ذلك أن الإسلام لم يظل بعيدا عن روح الحطيئة، بل أخذ يرسل فيها مثل هذه الإشعاعات النيرة»؛ وحين يقول لك مثل الحُطيئة: إن السعادة في التقوى، فذلك نُصْحٌ من ذهب خالص، تُطوَى عليه أهداب الجفون، فهو خلاصة تجارب شقي عانى وكابد الحياة وتاقت نفسه إلى جميع ما فيها من قليل وكثير، ثم هو بعد يقول لك في لحظة صدق مع النفس:

ولستُ أرى السعادةَ جمْعَ مال

                                         ولكنَّ التقي هُوَ السعيدُ

وتَقوَى اللهِ خيرُ الزادِ ذُخْرًا

                                         وعندَ اللهِ للأتقى مَزِيدُ

السعادة في التأني

أما النابغة الذبياني، فيرى السعادة في الأناة، ولم لا؟ وقد كانت سبب معاناته وتشرده وإشرافه على الهلاك وشايات أوشى به حسَّادُه عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة؛ فحق له أن يقول:

فالرفقُ يُمْنٌ، والأناةُ سعادةٌ

                                         فتأنّ في رفقٍ تنالُ نجاحا

السعادة في الزهد والعفاف

أما شاعر الزهد أبو العتاهية فيرى السعادة في الزهد والعفاف ويقول:

ما لي رَأَيتُكَ راكِباً لِهَواكا

                                         أَظَنَنتَ أَنَّ اللَهَ لَيسَ يَراكا

اِنظُر لِنَفسِكَ فَالمَنِيَّةُ حَيثُ ما

                                         وَجَّهتَ واقِفَةٌ هُناكَ حِذاكا

خُذ مِن حَراكِكَ لِلسُكونِ بِحَظِّهِ

                                         مِن قَبلِ أَن لا تَستَطيعَ حَراكا

إلى أن يقول:

حاوَلتَ رِزقَكَ دونَ دينِكَ مُلحِفاً

                                         وَالرِزقُ لَو لَم تَبغِهِ لَبَغاكا

وَجَعَلتَ عِرضَكَ لِلمَطامِعِ بِذلَةً

                                         وَكَفى بِذَلِكَ فِتنَةً وَهَلاكا

وَأَراكَ تَلتَمِسُ الغِنى لِتَنالَهُ

                                         وَإِذا قَنِعتَ فَقَد بَلَغتَ غِناكا

ثم يقول:

وَمِنَ السَعادَةِ أَن تَعِفَّ عَنِ الخَنا

                                         وَتُنيلَ خَيرَكَ أَو تَكُفَّ أَذاكا

دَهرٌ يُؤَمِّنُنا الخُطوبَ وَقَد نَرى

                                         في كُلِّ ناحِيَةٍ لَهُنَّ شِباكا

يا دَهرُ قَد أَعظَمتَ عِبرَتَنا بِمَن

                                         دارَت عَلَيهِ مِنَ القُرونِ رَحاكا

ليست السعادة في المال

     يقول الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي: «الناس يعتقدون اعتقادًا خطأ أن المال أساس السعادة وميزانها الذي توزن به، فهم يسعون إليه لا من أجل القوت وكفاف العيش كما يجب أن يكون، بل من أجل الجمع والادخار، والمال في العالم كمية محدودة لا تكفى لملء جميع الخزائن وتهدئة كافة المطامع، فهم يتخاطفونه ويتناهبونهُ ويتصارعون من حولهِ كما تتصارع الكلاب حول الجيف المطّرحة، ويسمعون عملهم هذا تنازع الحياة أو تنازع البقاء، وما هو بالتنازع ولا التناظر، إنما هو العراك والتناحر، والدم السائل، والعدوان الدائم، والشقاء الخالد، والعلاج الوحيد لهذه الحال المُخيفة المُزعجة أن يفهم الناس أن لا صلة بين المال وبين السعادة، وأن الإفراط في الطلب شقاء كالتقصير فيه، وأن سعادة العيش وهناء وراحة النفس وسكونها لا تأتي إلاّ من طريق واحد، وهو الاعتدال».

قصة الصياد

     يقول: حدَّثَ أحد الأصدقاء قال: بينا أنا في منزلي صبيحة يوم؛ إذ دخل علي رجل صياد يحمل في شبكة فوق عاتقه سمكة كبيرة؛ فعرضها علي فلم أساومه فيها بل نقدته الثمن الذي أراده فأخذه شاكرا متهللا وقال: هذه هي المرة الأولى التي أخذت فيها الثمن الذي اقترحته، أحسن الله إليك كما أحسنت إلي وجعلك سعيدا في نفسك، كما جعلك سعيدا في مالك، فسررت بهذه الدعوة كثيرا، وطمعت أن تفتح لها أبواب السماء، وعجبت أن يهتدي شيخ عامي إلى معرفة حقيقة لا يعرفها إلا القليل من الخاصة، وهي أن للسعادة النفسية شأنا غير شأن السعادة المالية، فقلت له: يا شيخ وهل توجد سعادة غير سعادة المال؟ فابتسم ابتسامة هادئة مؤثرة وقال: لو كانت السعادة سعادة المال لكنت أنا أشقى الناس؛ لأنني أفقر الناس.

قلت: وهل تعد نفسك سعيدا؟ قال: نعم؛ لأنني قانع برزقي مغتبط بعيشي لا أحزن على فائت من العيش، ولا تذهب نفسي حسرة وراء مطمع من المطامع فمن أي باب يخلص الشقاء إلى قلبي؟

قلت: أيها الرجل أين يذهب بك وما أرى إلا أنك شيخ قد اختلس عقله، وكيف تعد نفسك سعيدا وأنت حاف غير منتعل وعار إلا قليلا من الأسمال البالية والأطمار السحيقة.

     قال: إن كانت السعادة لذة النفس وراحتها، وكان الشقاء ألمها وعناءها، فأنا سعيد؛ لأني لا أجد في رثاثة ملبسي ولا في خشونة عيشي ما يولد لي ألما، أو يسبب لي هما، وإن كانت السعادة عندكم أمرا وراء ذلك، فأنا لا أفهمها إلا كذلك، قلت: ألا يحزنك النظر إلى الأغنياء في أثاثهم ورياشهم، وقصورهم ومراكبهم، وخدمهم وخولهم، ومطعمهم ومشربهم؟ ألا يحزنك هذا الفرق العظيم بين حالتك وحالتهم؟ قال: إنما يصغر جميع هذه المناظر في نظري ويهونها عندي أني لا أجد أن أصحابها قد نالوا من السعادة بوجدانها، أكثر مما نلته بفقدانها.

القلب منبع السعادة

     حين تتوافر أسبابها، فإن السعادة لا تأتي من شيء خارج النفس، بل هي نتاج ذاتي، ينتجه القلب الراضي والنفس المطمئنة بالله، يقول المنفلوطي -رحمه الله-: إن السعادة ينبوع يتفجر من القلب، لا غيث يهطل من السماء، وأن النفس الكريمة الراضية البريئة من أدران الرذائل وأقذارها، ومطامع الحياة وشهواتها، سعيدة حيثما حلت، وأنى وُجدت، في القصر وفي الكوخ، في المدينة وفي القرية، في الأنس وفي الوحشة، في المجتمع وفي العزلة، بين القصور والدور، وبين الآكام والصخور؛ فمن أراد السعادة فلا يسأل عنها المال والنسب، وبين الفضة والذهب، والقصور والبساتين، والأرواح والرياحين، بل يسأل عنها نفسه التي بين جنبيه، فهي ينبوع سعادته وهناءته إن شاء، ومصدر شقائه وبلائه إن أراد، وما هذه الابتسامات التي نراها تتلألأ في أفواه الفقراء والمساكين والمحزونين والمتألمين لأنهم سعداء في عيشهم، بل لأنهم سعداء في أنفسهم.

أسعد الناس هو المحب

     يقول -رحمه الله-: «وما هذه الزفرات التي نسمعها تتصاعد من صدور الأغنياء والأثرياء وأصحاب العظمة والجاه لأنهم أشقياء في عيشهم؛ بل لأنهم أشقياء في أنفسهم، وما كدَّرَ صفاء هذه النفوس وأزعج سكونها وقرارها، وسلبها راحتها وهناءها مثل عاطفة البغض، ولا أنار صفحتها وجلى ظلمتها مثل عاطفة الحب، فأشقى الناس جميعا المبغضون الذين يضمرون الشر للعالم، فيجزيهم العالم شرا بشر، وأسعدهم جميعا المحبون الذين يحبون الناس ويمنحونهم وُدَّهم وصفاءهم، فيمنحهم الناس من بنات قلوبهم مثل ما منحوهم».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك