حقيقة التوكل على الله -تعالى- وثمراته
أمرنا الله -تعالى- بالإنابةِ إليه، والتوكلِ عليه، فقال -تعالى-: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران 160)، وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يستعلمَ: هل رَبْطُ ناقتِه ينافي توكلَه على الله، فقال: يا رسولَ اللهِ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم -: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» (رواه الترمذي). ذلكَ أنَّ الأخذَ بالأسبابِ لا ينافي توكلَ القلبِ على الله -عز وجل-، ولذلك فقد أَمَرَ الشَّرعُ بالأخْذِ في الأَسبابِ والعمل؛ حتَّى لا يَتَحوَّلَ التَّوكُّلُ إلى تَواكُلٍ وكَسَلٍ، والله -تبارك وتعالى- قد جبر ضعفَ الإنسانِ بالتوكلِ عليه، واستجلابِ الخيرِ منه، ودفعِ الشر عنه، وتفويضِ الأمر إليه -سبحانه-، مع الأخذ بالأسباب الصحيحة.
والتوكلُ: هو صِدقُ اعتمادِ القلبِ على الله، في استجلابِ المصالحِ ودفعِ المضارِّ، وهو أعظمُ الأسبابِ التي يحصلُ بها المطلوب، ويندفعُ بها المرهوب، وهو دليلُ الثقةِ بالله -تعالى-، ولهذا كان التوكلُ من صفاتِ المؤمنين، الواثقينَ برب العالمين، كما قال -تعالى-: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران 160)، ولهذا أيضا كانت للتوكلِ المنزلةُ السنية، في الشريعة الإسلامية، فهو من صفات السبعين ألفًا، الذين يدخلون الجنةَ بلا حساب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي سَبْعُونَ ألْفًا بغيرِ حِسابٍ، هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)» (متفق عليه). أسأل اللهَ -عز وجل- أن يجعلني وإياكم منهم.
مِن أسبابِ نيل محبة اللهِ
والتَّوكُّلُ على اللهِ سبب مِن أسبابِ نيل محبة اللهِ -تبارك وتعالى- والقرب منه؛ قالَ اللهُ -جل في علاه-: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران 159).
مِن أسبابِ النصرِ والظَّفَر
والتَّوكُّلُ على اللهِ هو مِن أسبابِ النصرِ والظَّفَر، قال -تعالى-: {إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران 160)، ومن وصلَ إليه القضاءُ ونَفَذَ إليه القَدَر، فليستقبله بالتوكلِ والصبر، قال -تعالى-: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة 51).
من أسباب الوقاية من الشيطان
ومن خشي الشيطانَ وكيدَه، كان التوكلُ على اللهِ له حِصنًا حصينا، قال -تعالى-: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل 99)، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «من قالَ -إذا خرجَ من بيتِهِ-: بِسمِ اللهِ، توَكَّلتُ على اللهِ، لا حَولَ ولا قوَّةَ إلَّا اللهِ، يقالُ لَهُ: كُفيتَ، ووُقيتَ، وتنحَّى عنهُ الشَّيطانُ» (رواه الترمذي)، ومن تخلى عنه الناسُ وتولوا معرضين، فإنَّ اللهَ حَسْبُهُ بتوكلِهِ على العزيز الحكيم: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللهُ لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة 129).
مِن أسبابِ الرِّزقِ وكِفايةِ اللهِ العبدَ
والتَّوكُّلُ على اللهِ هو مِن أسبابِ الرِّزقِ وكِفايةِ اللهِ العبدَ؛ حيثُ قالَ اللهُ -عز وجل-: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق 3)، أي: كافيه. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لو أنَّكم توَكَّلتم على اللهِ حقَّ توَكُّلِهِ، لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ، تغدو خماصًا، وتروحُ بطانًا» (رواه مسلم)، أي: تسعى في أول النهار في طلب الرزق وبطونُها ضامرةٌ خالية، وترجعُ آخرَ النهارِ شَبْعَى وبطونُها مَلأى من رزق الله، وكذلك العبدُ في دنياه، لا ينفكُّ عن حاجته إلى الأخذِ بالأسبابِ والتوكلِ على الله.
وصية الله لأنبيائه الكرام
وبذلك وصى اللهُ أنبياءَه الكرام، فقال لنبيه محمدٍ -عليه السلام-: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران 159)، وقالَ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا} (الأحزاب 3)، وقال شعيبٌ -عليه السلام-: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود 88)، وقال رُسُلُ اللهِ -عليهمُ السلام-: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} (إبراهيم 12)، وقال عن الصحابةِ الكرام، رضي الله عنهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران 173).
التوكل من صفات المؤمنين
فالتوكلُ على الله هو من صفات المؤمنين، المسلمينَ لرب العالمين، كما قال موسى -عليه السلامُ- لقومه: {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (يونس 84)، ذلك أنَّ التوكلَ من شروط الإيمان برب العالمين، كما قال الله -تعالى- في كتابه المبين: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة 23).
التوكل نصف الدين
والتوكلُ نصفُ الدين؛ لأن العبدَ مأمورٌ بالعبادة، ومأمورٌ بالاستعانةِ عليها بالتوكلِ على رب العالمين، قال -تعالى-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة 5).
التوكل لا يعني تركَ الأسبابِ
ولكنَّ التوكلَ على الله لا يعني تركَ الأسبابِ والقعودَ عنها، فإنَّ ذلك يكونُ حينئذٍ من العجز والتواكل، وليس من التوكلِ في شيء، بل المؤمنُ يأخذُ بالأسباب الصحيحة، ومع ذلكَ فقلبه متعلقٌ بالله لا بها، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اختفى بالغار عن أعين الكفار، حتى إن أبا بكر -رضي الله عنه- قال له -وهو يرى أقدامَ المشركين-: يا رَسولَ اللهِ، لو أنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقالَ - صلى الله عليه وسلم -: «يا أَبَا بَكْرٍ، ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ، اللهُ ثَالِثُهُمَا؟!» (متفق عليه)، وكذلك اتخذ في هجرته دليلا ماهرا يدله إلى المدينة، وتعاطى الدواء، وأمر بالتداوي، وأمر باتقاء الأمراض، وأمر بإغلاق الأبواب، وتغطية الآنية، وإطفاء النار قبل النوم، والأمثلةُ في ذلك كثيرةٌ في حياته - صلى الله عليه وسلم -، يأخذُ بالأسبابِ الصحيحة، وقلبه معلق برب الأسبابِ كُلِّها، وذلكم هو التوكلُ الصحيحُ المأمورُ به، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، ولا تَعْجِزْ) (رواه مسلم)، فتوكلوا على اللهِ أيها المؤمنون، فإنَّ حُسْنَ الثوابِ وجَنَّةَ اللهِ هما أعظمُ ما ينالُه المتوكلون، وبه يَظْفَرون، قال -تعالى-: {وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى 36).
لاتوجد تعليقات