رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: محمد مالك درامي 14 نوفمبر، 2022 0 تعليق

حقوق الإنسان  في الشريعة الإسلامية (2) المفهوم الشرعي لحقوق الإنسان

إن الإسلام عقيدة وشريعة، هو دين الله الحق الذي ارتضاه لعباده المؤمنين فهو نظام دين ودنيا، ينظم علاقة المسلم بربه، وبمجتمعه، وينظم حال الجماعة المسلمة بما يصلح حالها ويضمن الاستقرار اللازم لها لقيام مجتمع آمن يلتزم أفراده فيه بأمر ربه، وهي رسالة شاملة، تتعدى الحدود الإقليمية، ودعوة عالمية في نظامها وأحكامها التي تستمدها من التشريع الإلهي وهو القرآن الكريم الذي جاء كاملاً وشاملاً لجميع الأحكام والأزمنة والأوقات، وشرع مبادئ العلاقات بين البشر، ومن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، الذي فسّر وبيّن الأحكام الشرعية للناس كافة؛ لذلك كان الإسلام سباقًا إلى تقرير حقوق الإنسان، وشرع تشريعات تعلي من قيمة الإنسان وحقوقه المتمثلة في المساواة والحرية والعدل.

     لقد قررت الشريعة مبدأ الكرامة الإنسانية، لكل الناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم، وألوانهم ولغاتهم، وأديانهم وبلدانهم، وإذا كان العالم المعاصر يتغنى بحقوق الإنسان وحفظ مصالحه، وقد يخيل لكثير من الناس أنه هذا من مبتدعات العصر ومحاسنه؛ فإن الله -تعالى- أخبرنا بأنه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ لأجل إسعاد الإنسان وحفظ مصالحه وحماية حقوقه المشروعة، كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: ٢٥)، فبين أن الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب هو إقامة القسط والعدل بين الناس، والعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع كل شيء في موضعه الصحيح، وبهذا يسعد الناس وتحفظ حقوقهم ومصالحهم.

النبي صلى الله عليه وسلم  لا يأمر إلا بالمعروف

     ووصف الله -جل وعلا- رسوله صلى الله عليه وسلم  بقوله:{يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: ١٥٧)، فالرسول [ لا يأمر إلا بالمعروف الذي أمر الله به، وتعرفه العقول السليمة والفطرة السليمة، ولا ينهى إلا عن المنكر الذي نهى الله عنه، وتنكره العقول السلمية والفطرة المستقيمة، ولا يحل إلا ما أحله الله من الطيبات النافعات، ولا يحرم إلا ما حرمه الله من الخبائث والمضرات، وأكد ذلك بقوله -تعالى-:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:١٠٧).

     ولو كان في هذه الشريعة الغراء شيء ضد مصلحة الإنسان وحقوقه المشروعة لم تكن رحمة للعالمين، كما بين -سبحانه- في آيات كثيرة.

الشريعة قائمة على العدل والقسط

     وهذه الشريعة المباركة قائمة على العدل والقسط، والمصلحة والحكمة، والإحسان والرحمة، فالله -تعالى- من كمال رحمته بعباده وعظيم فضله عليهم لا يأمرهم إلا بالعدل والحق، والإحسان والبر، ولا ينهاهم إلا عن الظلم والباطل، والفحشاء والمنكر، كما قال -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل:٩٠)، وقال -تعالى-: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنعام:١١٥)، أي: إن كلامه -سبحانه- كله صدق وحق، وأحكامه كلها عدل وقسط، قال -تعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:٥٠).

     ولهذا كان أسعد الناس، وأكثرهم أمناً، وأطيبهم حياة، وأهنأهم عيشاً، وأكثرهم تمسكاً بدين الله والتزاماً بشرعه، قال الله -تعالى-:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: ٩٧)، فضمن لكل من آمن به وعمل صالحاً من الأفراد والمجتمعات أن يحيا حياة طيبة، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بحفظ حقوق هذا الإنسان، وحماية مصالحه، وقال -تعالى-:{فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: ٣٨)، وقال -تعالى-:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (طه: ١٢٣) وقال -تعالى-:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: ٨٢)، فمن آمن بالله -تعالى- واتبع هداه، والتزم شريعته، كان له تمام الأمن والهداية في الدنيا وفي الآخرة، وألا يضل فيهما ولا يشقى، ولا يخاف ولا يحزن، فكان الالتزام بدين الله، والأخذ به عقيدة وشريعة ومنهاج حياة هو الضمانة الحقيقية لإسعاد الإنسان، وحفظ حقوقه، وضمان أمنه واستقراره، ليس في الدنيا فحسب، بل في الدنيا والآخرة.

الإسلام له فضل السبق

     والإسلام كان له فضل السبق على المواثيق والإعلانات كافة، والاتفاقيات الدولية، في تناوله لحقوق الإنسان، وتأصيله وتحديده لتلك الحقوق، وتشريعه للأحكام اللازمة لحفظها وحمايتها، ومراعاة المصالح، وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها من أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، فجاءت تشريعاته في هذا الباب: جامعة، مانعةً، فاقت بذلك كل ما عرفته، وتعرفه المدنية بكل هيئاتها، وما الحقوق التي تضمنتها المواثيق والصكوك الدولية إلا تأكيد وترديد لبعض ما تضمنته الشريعة الإسلامية.

المفهوم الشرعي لحقوق الإنسان

نتناول المفهوم الشرعي لحقوق الإنسان وذلك في محاور:

أولاً: مفهوم حقوق الإنسان في القرآن الكريم

      من الألفاظ المحورية في القرآن الكريم لفظ (الحق)، فهو لفظ ذو حضور بارز في العديد من الآيات القرآنية، ولا عجب في ذلك؛ فإن القرآن الكريم هو الحق القويم، ودعوة إلى الحق المبين، وقد وردت مادة:(ح. ق. ق) في القرآن الكريم مائتين وثلاثة وثمانين موضعا بدءا من سورة البقرة في قوله -تعالى-: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} البقرة: ٢٦، وانتهاء بسورة العصر في قوله جل وعلا: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: ٣).

     وكلمة الحق لم ترد في القرآن الكريم بصيغة الجمع، وإنما وردت بصيغة المفرد، وقد جاءت بالمفردات الآتية:(حق) قال -تعالى-: {وما قدروا الله حق قدره} (الأنعام: ٩١).

     و(حقت) قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (يونس: ٩٦)، و(بحق) قال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} (المائدة: ١١٦).

     و(استحق) قال -تعالى-: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} (المائدة: ١٠٧)، و(الحق) قال -تعالى-: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس: ٣٢)، و(حقا) قال -تعالى-: {وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة:.٢٤١)، و(حقه) قال -تعالى-: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (الإسراء: ٢٦)، و(حقيق) قال -تعالى-: {حَقِيقٌ عَلَى أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (الأعراف: ١٠٥)، كما أن كلمة الحقُّ مِن أسماء الله -تعالى-، فيوصف الله -عز وجل- بأنه الحق؛ لأنَّ ُوجُوده ثابِت لا مِريَة فيه، وأفعالُه صِدق لا مُعقِّبَ لَها ولا مُستَدرك، قال -تعالى-: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (الأنعام: ٦٢).

 الحق صفة من صفات الله عزوجل

      وكما قيل إنه صفة من صفاته -عز وجل-، قال الشيخ عبدالرحمن السعدي- رحمه الله- في تفسيره، «إن الله هو الحق في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به. فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفا، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفا.

     فقوله حق، وفعله حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له هي الحق، وكل شيء ينسب إليه فهو حق، قال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (الحج: ٦٢) وقال -تعالى-: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: ٢٩)، وقال -تعالى-: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس: ٣٢)، وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء: ٨١).

لفظ (الحق) في القرآن الكريم

     ولفظ (الحق) ورد في القرآن الكريم على معان عدة وصور مختلفة، وفي مواضع عدة نذكر منها: ما جاء بمعنى الله -سبحانه وتعالى-، من ذلك قوله -تعالى-: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (المؤمنون: ٧١)، قال مجاهد وغيره: «الحق هو الله -عز وجل-»، وجاء بمعنى القرآن الكريم، من ذلك قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} (الأنعام: ٥)، قال البغوي وغيره: «القرآن ونحوه قوله -تعالى-: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} (الزخرف: ٢٩) يعني: القرآن، وقاله الشوكاني وغيره، وجاء بمعنى دين الإسلام، من ذلك قوله -تعالى-: {وقل جاء الحق} (الإسراء: ٨١)، قال القرطبي: «أي الإسلام» ونحوه قوله -سبحانه وتعالى-: {ليحق الحق ويبطل الباطل} (الأنفال: ٨)، قال القرطبي:» أي: يظهر الإسلام»، كما جاء الحق بمعنى الإنجاز والتأكيد، من ذلك قوله -تعالى-: {وعدا عليه حق} (التوبة:١١١) أي: ما قضى به -سبحانه وتعالى- أمر كائن لا بد منه، ولا محيد عنه فهو واقع لا محالة، ونحوه قوله -سبحانه وتعالى-: {وكان وعد ربي حقا} (الكهف: ٩٨). قال ابن كثير: «أي كائناً لا محالة».

     وجاء بمعنى الحاجة، من ذلك قوله -تعالى-: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} (هود:٧٩) أي: ليس لنا فيهن حاجة، كما جاء بمعنى العدل، من ذلك قوله -تعالى-: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (النور: ٢٥)، قال ابن كثير: «أي: وعده ووعيده وحسابه هو العدل، الذي لا جور فيه»، وقوله -تعالى-: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (غافر:٢٠).

الحق بمعنى التوحيد

     وجاء الحق بمعنى التوحيد، من ذلك قوله -تعالى-: {فعلموا أن الحق لله} (القصص: ٧٥). قال ابن كثير: «أي: لا إله غيره»، ونحوه قوله -سبحانه وتعالى-: {له دعة الحق} (الرعد: ١٤)، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: «لا إله إلا الله»، وقال الطبري: «عنى بالدعوة الحق، توحيد الله، وشهادة أن لا إله إلا الله».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك