رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د.خالد راتب 8 أكتوبر، 2013 0 تعليق

حرمة الدماء في ضوء الوثيقة النبوية


الدماء عندهم رخيصة؛ لأن اللعنات توالت عليهم وحاصرتهم في بيوتهم، وتنتظرهم في قبورهم ويوم حشرهم

الدماء عندهم رخيصة؛ لأن اللعنات توالت عليهم وحاصرتهم في بيوتهم، وتنتظرهم في قبورهم ويوم حشرهم

     أرسى النبي صلى الله عليه وسلم  دعائم الدولة الإسلامية، وحدد المعالم الجوهرية في التعامل مع السياسات الخارجية، وذلك عن طريق وثيقة المدينة؛ حيث كانت بمثابة الدستور الإسلامي الذي ينظم العلاقات بين المسلمين واليهود ومشركي الأنصار، وإعداد جيش لحماية الدولة، والسعي لتحقيق أهدافها والعمل على حل مشكلات المجتمع الجديد وتوفير شؤون الحياة للجميع كافة.

     وهناك وثيقة أخرى كان جل اهتمامها تنظيم العلاقات الداخلية؛ لأن هذه التنظيمات سوف تكون القواعد الأساسية لوثيقة المدينة،ومن خلالها يتحقق الأمن والأمان للمجتمعات الإسلامية وغيرها، وهذه الوثيقة كانت في عام عشرة من الهجرة؛ حيث خرج النبي صلى الله عليه وسلم  لأداء فريضة الحج، وهي المسماة بحجة الوداع؛ وخطب فيها خطبة الوداع، وقد تضمنت خطبته أمورا عظيمة، منها: بيان حرمة الدماء والأعراض والأموال. وحديثنا هنا عن حرمة الدم؛ وكان السبب في التركيز على حرمة الدماء ما نشاهده الآن في العالم من قتل وذبح وسطو بالأسلحة الثقيلة على الشعوب، وكأننا في حرب إبادة، يستهدف القوي فيها الضعيف، وكأننا نعيش في غابة؛ ولكن غابة أشد وحشية من الغابات التي نعرفها؛ ففي الغابة لم نر هذا الكم من الاعتداءات، ولا بالكيفية التي نراها على أرض الإنسانية !!!

إنها مأساة أن نستقبل يومنا على مجازر وبحور من الدماء وأشلاء متطايرة هنا وهناك كحبات الرمال، ونختم يومنا بنفس المشاهد!!!.

والمأساة الكبرى أن نكون قد ألفنا هذه المناظر؛ بل قد نشاهدها ونحن نتسامر، بل وأحيانا ونحن نأكل ونشرب ونلهو ونلعب، حتى أصبنا بحالة تبلد بل وتجلد للشعور!!!

والمأساة الأكبر أن نصاب بالتبلد والتجلد الحسي تجاه تلك المجازر، ونكتفي بالشجب والإنكار،بل المصيبة الأكبر والأكبر أن يصل الأمر إلى إقرار ما يحدث!!!.

     ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم - من خلال هذه الوثيقة التي ودع بها الحياة في خطبة الوداع - الأمة من الانزلاق في بحور الدماء، وقالها صراحة: «يا أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، ألا لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (انظر: غاية المقصد فى زوائد المسند،للهيثمي).

     هذا هو خطاب القائد الأعلى للعالم كله : «يا أيها الناس»، ليشمل جميع طوائف العالم، وهذا هو أسلوبه عند إرساء القواعد المشتركة بين الإنسانية كلها، فلم يكن خطابه عنصريا يخاطب طائفة دون الأخرى، فلم يقل: إنهم هم شعب الله المختار الذي له جميع الحقوق،وباقي العالم من الأميين الخدم، ولم يكن خطابه طبقيا يميز طبقة على أخرى؛ بل كان خطابه وثيقة عالمية إنسانية لا تفرق بين جنس وجنس طالما أنه إنسان.

     كما نلاحظ في وصيته صلى الله عليه وسلم الخوف على أمته من أنفسهم أشد من خوفه عليهم من أعدائهم،وذلك ما صرح به صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا فتحت عليكم فارس و الروم أي قوم أنتم ؟ قيل : نكون كما أمر الله قال : أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض» (انظر حديث رقم: 697 في صحيح الجامع). وفي رواية أخرى يحذر ويقول: «ويحكم! لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»(انظر حديث رقم: 7131 في صحيح الجامع).

     وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة القتل،وهذا من باب الدلالة على نبوته،بل وبين في أحاديثه أن القتل يكثر ويكثر كلما تقارب الزمان وقل العلماء الربانيون النصحاء، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «يلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج قالوا يا رسول الله وما هو قال القتل القتل» (متفق عليه).

     بل سيكثر القتل حتى لا يعرف المقتول لم قتل؟ ولا القاتل يعرف لماذا قتل؟ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل؟ ولا يدري المقتول فيم قتل؟» (أخرجه مسلم)، وذلك لأن العقول قد طاشت، وأصبح الناس يعيشون في موجة من عدم العقلانية وبعد الرؤية بل وقسوة القلب، حتى يقتل الرجل أخاه، فيقتل عمه، فيقتل ابن عمه، ويقتل جاره ، عن أبى موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم -:  «إن بين يدي الساعة الهرج قالوا: وما الهرج؟ قال: القتل إنه ليس بقتلكم المشركين ولكن قتل بعضكم بعضا، حتى يقتل الرجل جاره ويقتل أخاه ويقتل عمه ويقتل ابن عمه، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ ؟ قال: إنه لتنزع عقول أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء» (انظر: السلسلة الصحيحة).

     من أجل ذلك شددت  الشريعة الإسلامية على حرمة الدماء وعصمتها، كما صرحت بذلك أدلة الكتاب والسنة المتواترة ،فأول ما يبدأ به في المقاصة بين الناس يوم القيامة: الدماء،ولا تعارض بين هذا الحديث وبين الحديث الصحيح الذي رواه أصحاب السنن، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم : «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة»، قال أهل العلم: أما الصلاة فهي أول حق لله، وأما الدماء فهي أول حق يقضي الله فيه بين العباد، فلا تعارض بين الحديثين، ولذلك جمعت رواية النسائي بين الأمرين في لفظ واحد، فقال صلى الله عليه وسلم : «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، وأول ما يقضى فيه بين العباد في الدماء».

الأنفس المعصومة في الإسلام:

     لشدة حرمة الدماء وعصمتها فصلت الشريعة الإسلامية فمن يحل دمهم،فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة» رواه البخاري ومسلم .

     ففي هذا الحديث فوائد : منها احترام المسلم وأنه معصوم الدم لقوله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» ومنها أنه يحل دم المرء بهذه الثلاث «الثيب الزاني» وهو الذي زنى بعد أن من الله عليه بالنكاح الصحيح فإنه يرجم حتى يموت. والنفس بالنفس» يعني إذا قتل شخصا وتمت شروط القصاص فإنه يقتل به, لقوله تبارك وتعالى{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ...} (البقرة:178 )، وقال تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (المائدة: 45 )، «والتارك لدينه المفارق للجماعة» وهذا المرتد إذا ارتد بعد إسلامه حل دمه؛ لأنه صار غير معصوم الدم، وذلك بعد استتابته.

     ومن الأنفس المعصومة في الإسلام أنفس المعاهدين وأهل الذمة والمستأمنين ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة, وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما» (أخرجه البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم  : «ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» (انظر حديث رقم : 2655 في صحيح الجامع).

     فحرمة الدماء لجميع الأحياء دون تفرقة بينهم في العقيدة والدين والمذهب، ومما وقع الاتفاق عليه بين فقهاء الأمة أن دم كل إنسان مصون دون اشتراط أي وصف آخر، وأن صون دمه يتحقق بولادته حيا، والدم الذي قد حرم بالعهد كالدم الذي قد حرم بالإسلام، وأن تكون العقوبة بانتهاكه لحرمته بالعهد كالعقوبة في انتهاكه مثله لحرمته بالإسلام، وقد أخذ الفقهاء هذا المبدأ من قوله - تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} (الإسراء:33)، وقد تكرر هذا النهي مرة أخرى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ}(الإنعام: 151)، ثم هول القرآن من قتل النفس ظلما وعدوانا، وجعله مساويا في الشناعة لقتل الناس جميعا، فقال - عز وجل :{أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}(المائدة:32)، وليس في الإسلام نص واحد في كتاب الله أو سنة رسوله يبيح قتل إنسان بسبب عدم دخوله في الإسلام، أو لأنه يعتنق عقيدة ودينا غير عقيدة الإسلام ودين الإسلام.

     وقد كان المسلمون أشد حرصا على حرمة الدماء، والاهتمام بحقوق الآخرين، حتى المخالفين لهم في العقيدة، وقد طبقوا ذلك عمليا، فهذا عمر رضي الله عنه وهو على فراش الموت، يقول قولته المشهورة وهو يوصي من يتولى أمور المسلمين بعده: «وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم : أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم»، وقد حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له، أن من كان في الذمة، وقصده العدو في بلادنا، وجب الخروج لقتالهم، حتى نموت دون ذلك؛ صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن تسليمه إهمال لعقد تلك الذمة.

     وعندما أراد أحد سلاطين التتار أن يطلق سراح أسرى المسلمين؛ دون النصارى، اعترضه الإمام ابن تيمية؛ لأنه سرى في حقهم ما يسري في حق المسلمين، وأنه إن لم يطلق سراحهم، جاهد المسلمون، واستأنفوا القتال؛ لافتكاكهم. ولابن تيمية رسالة مشهورة بهذا الخصوص، اسمها :(الرسالة القبرصية).

     إن هذا الاهتمام من الإسلام بالدماء، وتحديد أكبر العقوبة للمتعدي عليها بغير حق؛لأن أي قطرة دم تنزل من أي إنسان - ظلما وعدوانا - لعنة على من شارك مشاركة مباشرة في إنزالها،وكذلك لعنة على من كان سببا في إنزالها،وهي لعنة على من شمت في صاحبها،ولعنة على من سكت ورضي وكان في قدرته أن يحقنها.. هذه قطرة واحدة، فما بالنا بالدماء التي تسفك ليل نهار، والعالم كله يشاهد  شلالات الدماء المنهمرة قد فاقت كل المجازر في تاريخ عمر الإنسانية.. والطامة الكبرى أن سافكي الدماء يعدون هذه الدماء رخيصة لا قيمة لها،بل يعدون الرصاصة التي يضرب بها المظلوم أغلى من دمه!!! إنها رخيصة فعلا عند من لم يسمع بالوثيقة النبوية العالمية الخالدة،التي جعلت الدماء كلها محرمة إلا بحق:إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا..

     إنها رخيصة عندهم لأن الدنيا عندهم غالية، ونسوا أن زوال الدنيا أهون عند الله من دم يسفك بغير حق،قال صلى الله عليه وسلم : «لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم يسفك بغير حق ..» (صحيح لغيره).

     الدماء عندهم رخيصة؛ لأن اللعنات توالت عليهم وحاصرتهم في بيوتهم، وتنتظرهم في قبورهم ويوم حشرهم؛ لأن الذي يوجه سلاحه تجاه أخيه ولو بحديدة فإنه ملعون، قال صلى الله عليه وسلم : «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي وإن كان أخاه لأبيه وأمه ..» (أخرجه مسلم).

     إنها رخيصة عندهم؛ لأنه ومن المحتمل أن نصوص الوعيد التي تنتظر القتلة بعيدة عن أعينهم..أو أنهم لم يقرؤوها !!!. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» (متفق عليه).

     وقد ثبت في الشرع النهي عن قتل البهائم صبرا «أي تحبس وترمى حتى الموت»، عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل شيء من الدواب صبرا».

(انظر حديث رقم : 6839 في صحيح الجامع).

     هذا هو تعامل الإسلام مع حقوق الحيوان، فكيف بحقوق الإنسان؟! وماذا عن قتل  الناس بغير حق ولاسيما المسلم؟ عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق» (رواه ابن ماجه، انظر حديث رقم: 5078 في صحيح الجامع)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار » . رواه الترمذي

     بل جعل الشرع الذنب على من أعان على قتل مؤمن بمال أو سلاح أو ساعده ولو بكلمة أو بنصف كلمة،  روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله» رواه ابن ماجة والحديث فيه ضعف.

     ما أعظمك يا رسول الله! وما أعظم رسالتك! وما أعظم هذه الوثيقة التي وصيت بها وأنت تودع الدنيا!؛ لتحقن الدماء وتجعل لها حرمة وعصمة أشد من عصمة الأماكن المقدسة في الأزمنة الشريفة، وياليت العالم كله يتخذ من وثيقة المدينة ووثيقة الوداع أساسا لكل الحقوق؛ لأن بهما يتحقق الأمن والأمان للعالم كله.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك